أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

تركيا تتحرك باتجاه نظام «الحزب ونصف»

سيصبح أي حاكم ناجحًا لو أنه علم أمرين فحسب؛ أولهما: متى ينبغي عليه التحرك، وثانيهما: متى ينبغي عليه الوقوف دون حراك.
وردت هذه العبارة في نص فارسي كلاسيكي بعنوان «مارزبان نامه»، أحد الكتب الكثيرة المشهورة داخل العالم الإسلامي منذ العصور الوسطى، ويعرف بالعربية باسم «مرآة الملوك». ويحاول الكتاب توجيه الحاكم بخصوص كيفية الاضطلاع بشؤون البلاد.
وصيغت الفكرة ذاتها بنبرة أكثر طرافة على لسان غايوس أوكتافيوس، المعروف باسم أوغسطين، الإمبراطور الروماني الوحيد الذي نجح في الاستمرار في الحكم لقرابة ثلاثة عقود سادها الهدوء. وكان شعاره: «لا تتعجل في عمل شيء» و«تعجل ببطء»!
وسيكون من الأفضل أن يضع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هذه النصيحة نصب عينيه، في نسختيها الفارسية والرومانية. بعد أن نجا من محاولة انقلاب الشهر الماضي تعرضت للإجهاض، الآن يبدو إردوغان أقرب عن أي وقت مضى من تحقيق هدفه الأكبر المتمثل في تدشين حقبة عثمانية جديدة يصبح فيها رأس السلطة.
جدير بالذكر أن الحاكم العثماني تقلد مجموعة متنوعة من الألقاب، فقد كان «خانًا» أو «خاقانًا» لأبناء عشيرته من الأتراك، و«خليفة» لرعاياه من المسلمين السنة، و«سلطانًا» لمن يتولون إدارة الأجهزة البيروقراطية والعسكرية بدولته، و«باشا» رعاياه من الناطقين بالفارسية، و«قيصرًا» للرعايا المسيحيين بالإمبراطورية.
إلا أن الأمر الوحيد الذي لم يكن منطبقًا عليه هو لقب الحاكم المستبد، ذلك أنه لم يكن بمقدور الحاكم العثماني فعل ما يحلو له. وتكشف التقارير الصادرة عن مبعوثين غربيين وتجار على امتداد أكثر من قرنين أن الخان - الخليفة - السلطان - الباشا - القيصر العثماني مارس سلطة أقل بكثير عما فعله نظراؤه بدول أوروبية، مثل سلسلة الملوك الذين حملوا اسم لويس في فرنسا آنذاك.
كما أن مسار العمل الذي فضله معظم الحكام العثمانيين كان تجنب اتخاذ أي إجراء. وحسب اعتقاد علي شير نوائي، الشاعر التركي العظيم، فإنه ينبغي علينا تجنب فعل الأمور التي يتعذر التراجع عنها. وعندما يتعلق الأمر بحاكم إمبراطورية كبرى، فإن هذا الأمر الذي يتعذر التراجع عنه قد يصبح أمرًا هائلاً للغاية.
ومنذ محاولة الانقلاب التي باءت بالفشل، يتصرف إردوغان على نحو جعله أشبه بوحش مجروح يتحرك في كل اتجاه ويهاجم كل من تقع عليه عيناه ويقاتل أشباحًا في الظلام.
إن إردوغان بحاجة حقيقية للسيطرة على نفسه، على الأقل لأن تركيا، للأسف، بحاجة إليه الآن باعتباره آخر الخيارات داخل موقف يسوده الاضطراب والتوتر.
وأول ما يتعين على إردوغان عمله التقاط نفس عميق، باعتبار أن التنفس أحد الأمور التي لا يُنصح أي حاكم بتجنب فعلها. وبعد ذلك، عليه استعادة الانضباط داخل معسكره.
الملاحظ أن الكثيرين للغاية داخل معسكره، بدءًا من زوج ابنته وكبار قيادات حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه إردوغان، يطرحون عددًا هائلاً من المؤامرات لدرجة تجعل من العسير معرفة حقيقة ما حدث. ولا يمكن طرح رواية مقبولة على نطاق واسع بخصوص ما حدث إلا من خلال إجراء تحقيق حقيقي من قبل مجموعة لا تنتمي لحزب بعينه ومن دون أية مصالح شخصية.
والملاحظ أن الإجراءات التي جرى اتخاذها في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة تسببت بالفعل في أضرار بالغة للسياسات التركية الخارجية والداخلية.
في الوقت الذي تلقي بعض الشخصيات الكبرى داخل معسكر إردوغان علانية اللوم على الولايات المتحدة عن محاولة الانقلاب، فإن آخرين يطالبون واشنطن بترحيل فتح الله غولن، المنفي الذي يجري تصويره باعتباره العدو رقم واحد لإردوغان.
ومن بين تداعيات محاولة الانقلاب توجيه اتهامات لدول عربية بدعم الانقلاب الفاشل. وقد لمح السفير التركي في طهران مؤخرًا إلى أن تركيا وروسيا وإيران تشكل تحالفًا ثلاثيًا «لتحقيق الاستقرار بالشرق الأوسط».
اللافت للنظر أنه يوم وقوع الانقلاب نشرت صحيفة «كيهان» اليومية التي تعكس وجهة نظر المرشد الأعلى علي خامنئي، مقالاً افتتاحيًا بدا وكأنه يرحب بالحدث باعتباره مؤشرًا على أن «النموذج الأتاتوركي» أخفق، مما يترك أمام الإسلام خيارًا واحدًا فحسب يتمثل في «النموذج الخميني».
والملاحظ أنه على مدار الأسبوعين الماضيين، استمعنا وقرأنا الكثير للغاية من التصريحات المتعارضة لدرجة أننا لم نعد واثقين من ماهية السياسة التركية حيال قضايا محورية، مثل الحرب في سوريا والعراق، وكيفية استيعاب اللاجئين السوريين، والاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بخصوص طالبي اللجوء السياسي، والتوترات في العلاقات مع روسيا، ناهيك بالعلاقات المتقلبة صعودًا وهبوطًا مع إسرائيل.
من جانبه، يتعين على إردوغان السعي نحو إقرار وقف إطلاق نار من جانب معسكره، وربما عليه البدء بإصدار بيان يشدد على أن الانقلاب الفاشل لا يشكل بداية حقبة جديدة تتلاشى فيها السياسات والتحالفات التركية القائمة منذ عقود.
الواضح أن الانقلاب الفاشل أمد إردوغان بفرصة غير متوقعة للظهور في مظهر الضحية والمنقذ في الوقت ذاته. ومن المعتقد أن إردوغان سيبقى العنصر الأساسي الفاعل بالمشهد السياسي التركي على مدار السنوات الثلاث أو الأربع القادمة.
وبعد محاولة الانقلاب، تعرضت المعارضة التي يتزعمها غولن لهزة عنيفة، وربما جرى اجتثاث جذورها من البلاد، ومن غير المحتمل أن تعاود الظهور كمصدر تهديد في الوقت الراهن لإردوغان. أما الصدوع التي ظهرت في جدار حزب العدالة والتنمية، جرى رأبها، على الأقل في الوقت الراهن الأمر الذي يحمي إردوغان من التعرض لطعنة في الظهر. ونظرًا لتفاجئها بالأحداث، فإن أحزاب المعارضة المشاركة في البرلمان بحاجة إلى بعض الوقت لمراجعة مواقفها وطرح بديل مقبول لإردوغان وحزب العدالة والتنمية.
ربما راود إردوغان حلم إقرار نظام الحزب الواحد مع وجوده هو على قمته، إلا أن هذا الأمر من المستحيل تطبيقه الآن لأنه سيكون بمثابة رصاصة الرحمة في قلب الاقتصاد التركي المعتل بالفعل، لما سيترتب على ذلك من اختفاء للاستثمارات الأجنبية المباشرة وتجمد الروابط التجارية المتطورة بسرعة الآن مع أوروبا وأميركا الشمالية.
أما ما يمكن لإردوغان فعله فهو بناء نظام يقوم على «حزب ونصف الحزب»، بحيث يقر في إطاره حزب العدالة والتنمية الأجندة لباقي سنوات العقد الحالي، بينما توفر أحزاب المعارضة «النصف» اللازم للحفاظ على مظهر الديمقراطية البرلمانية.
جدير بالذكر أن نظام «الحزب ونصف الحزب» ليس بالأمر غير المسبوق، حيث طبقته المكسيك من قبل على مدار نصف قرن. كما تعايشت مع اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، علاوة على كونه النموذج الذي يفرضه الرئيس فلاديمير بوتين على روسيا.
الأمر المؤكد هنا أن الانقلاب الفاشل أعاد الديمقراطية التركية إلى الوراء لعقد على الأقل، لكن لو كان كتب له النجاح لكان تسبب في انتكاسة أطول وأعمق.