يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

الإردوغانيون الجدد: ولاءات عابرة للأوطان

الانقلاب في التاريخ التركي الحديث ليس شيئًا جديدًا أو بدعًا من ردود الفعل للشارع التركي الذي يتأرجح بين تراث الكمالية وأحزابها العلمانية، وبين الجيش من جهة ثانية قبل أن يدخل على الخط التيار الهوياتي بإسلامه التركي الذي يميل إلى المدرسة الصوفية المحافظة ليأتي حزب العدالة والتنمية ويعيد طرح الإسلام السياسي العدالة والتنمية من جديد بنكهة تركية كانت سببا في انتشارها، فهو تأسس على إرث الكمالية العلماني وليس كتيارات الإسلام السياسي المشرقية التي تأسست في سياق إسلامي وأنظمة شكلانية إشكالية، بمعنى أن شرعيتها قائمة على التحالف مع المؤسسات الدينية الرسمية أكثر من تمثيلها للدولة المدنية، فضلاً عن العلمانية الشمولية، وهناك تأتي شكلانية الدولة الحديثة وإشكالية تداخل الديني بالسياسي.
خلال نصف قرن هناك انقلاب كل بضع سنوات منذ انقلاب الجنرال جمال جورسيل في عام 1960. ثم الانقلاب ضد رئيس الوزراء سليمان ديميريل في عام 1971. ثم الانقلاب ضد الرئيس فخري كورتورك بقيادة الجنرال كنعان إيفرين في عام 1980، وصولاً إلى الانقلاب ضد نجم الدين أربكان من قبل الجيش في عام 1997.
الانقلاب الأخير رغم فشله الذريع كشف عن انقلابات مفاهيمية في المشهد العربي عمومًا ومشهدنا المحلي الذي لا تزال بعض نخبه تمارس صراع الديكة بشكل مؤدلج ليس في قضايا داخلية كما هو الحال قبل سطوة مواقع التواصل، بل انتقل إلى التعليق على كل إشكالية سياسة وفصلها عن سياقها الخاص ونقلها إلى معارك من قبيل: الكفر والإيمان، والحق والباطل.. الخ. ثنائيات الاحتراب التي تقوم على كثير من التعجل وسوء الظن والإحباط لكنها أيضًا أبانت عن سطحية كبيرة في تأطير الأزمات والأحداث في شكلها وسياقها السياسي ليس غير، والسياق السياسي للانقلاب يقول رغم كل الأوهام والقصص الأسطورة من الطرفين حول المؤامرة أو التأييد الإلهي أن منافس إردوغان وحزبه هو أكثر منه إسلامية بطابعها التركي الخاص، وأن من أنقذ الديمقراطية من قبضة الجيش المترهل والمصاب بأزمة ثقة من الشارع التركي خاصة في الجانب الذي تفوق فيه إردوغان وحزبه وهو الاقتصاد رغم النقد القاسي على سياساته الداخلية بدءًا بأزمة الأكراد إلى الحريّات إلى السياسة الخارجية تجاه الأكراد، إضافة إلى الشعارات الجاذبة للشارع الإسلامي في كل مكان وإن كانت على الأرض السياسة الخارجية التركية ضدها تمامًا وأبرزها الموقف من «إسرائيل»، إضافة إلى أمثلة كثيرة من التصرفات الخارجة عن سياق السياسة إلى التحشيد الجماهيري من فك أزرار القميص إلى الاستشهاد بالشعر إلى مؤتمرات العدالة والتنمية التي باتت في آخر فتراتها أشبه باجتماع إقليمي لجماعة الإخوان المسلمين؛ لا سيما بعد انهيارات الربيع العربي وهجرة رؤوس أموال وقيادات ورموز ووسائل إعلام لا تشمل فقط تيارات المقاومة كحماس، بل تتجاوزها إلى حزب كالإصلاح اليمني الذي يطلق قناته من هناك.
رصيد إردوغان نتاج ظروف موضوعية سياسية وحزبية خلال عمل حزبي منظم وطويل النفس استهدف على مدى سنوات طويلة «الطبقة الوسطى» بتفرعاتها تكنوقراطًا، ومصرفيين، ومثقفين وحتى رجال أعمال في بداية طريقهم، وكل هذه الفئات كانت تعاني من تسلط العسكر، بينما شرعية الإسلام السياسي المشرقي قامت على ما يشبه الفكر الانقلابي المفارق لسياق الدولة حتى في الدول التي كان بالإمكان التمثيل فيها كأحزاب سياسية متاخمة وربما تجربة المغرب استثناء يتيم في السياق العربي.
استلهام التجربة التركية ما بعد الربيع كان انتهازيًا تمامًا ويفتقد للمعيارية السياسية، فالاعتماد هو على جاذبية إردوغان وقوته في السياسة الخارجية، إلا أن الإسلاميين في الخطاب المضمر غير المعلن يشرعنون براغماتية إردوغان بأنها مؤقتة (البعض منهم في حوار شخصي استشهد بالفترة المكية!!) وإلى أن يأتي وقت التمكين وأنها خصوصية تركية لا تلائم المجتمعات العربية، لكن براغماتية مثل هذه في التعامل مع النموذج التركي ستعطي آثارًا سلبية على المدى البعيد بسبب أن الخطاب السلفي بالكاد ابتلع لعبة الديمقراطية التي كان متأكدًا قبل خوضها من أنه سيربحها، لكنه لا يمكن أن يتأقلم مع هذا الانصهار في النموذج التركي الحالي، وهنا يمكن أن نفهم الدعوة الساذجة سياسيا لبعض الدعاة بأن أهم ما يجب على إردوغان أن يفعله بعد فشل الانقلاب هو أسلمة الدولة!
بالطبع إذا تحدثنا بمنطق السياسة بما تحمله من براغماتية عملية؛ فإن تعاظم الدور التركي كدولة سنية لها حلفاؤها الجدد، سيشكل عائقًا أمام التمدد الإيراني لكن بشروط سياسية؛ عدم الدخول في حسابات أخرى بعد التحول الغربي تجاه إيران، أو تغير معطيات سياسية كما هو الحال عن تذبذب الموقف من بقاء بشار الأسد، فالأمر لا يعدو أن يكون إلا تثمينًا لأكلاف وتبعات سياسية كبيرة أقلها ضمانات تقدمها تركيا للغرب وللدول المجاورة على مستوى السياسة الخارجية، وعلى قدرتها في التعامل مع تحديات الداخل ليس على مستوى الاقتصاد؛ بل حتى على مستوى السلم الاجتماعي وتدعيم حالة الاستقرار، وهو دور لا تقدم تركيا فيه إلى الآن شيئا مذكورًا بما ذلك «الحرب على (داعش)».
خصوم إردوغان رغم اعترافهم بنجاح التجربة الاقتصادية لحزب إردوغان بفرض الوصاية على المجتمع التركي وأسلمة تدريجية بطيئة لكل مفاصل الدولة، الأمر الذي يشكل تهديدًا للهوية العلمانية المنكسرة، التي رغم فشلها في حصد الانتخابات فإن هذا الفشل المرتبط بقوة الأحزاب وقدرتها على إقناع الناخب لا يعني تحولاً نوعيًا في الهوية أو انزياحًا لصالح قناعات الأحزاب الإسلامية في القضايا الاجتماعية والحريات العامة، وهذا جزء من أزمة فهم صعود الإسلاميين عمومًا وعلاقة ذلك بممانعة اجتماعية في رؤيتهم للحريات ومسألة تطبيق الشريعة، وهي بالطبع عربيًا أقل حدة من دولة كتركيا منقسمة بين جذورها الإسلامية وطابعها العلماني الأوروبي.
النجاح الاقتصادي الهائل والشكلانية الديمقراطية إضافة إلى كاريزما إردوغان الذي لا يمكن اختزال بلد بحجم تركيا في سياساته الحزبية.. كل هذا يجب ألا يمنع من نقد السلوك السياسي المتهور في دعم جماعات متطرفة واستخدامها في تمرير مواقف وأجندات تخدم الرؤية التركية للمنطقة، لا سيما في مشكلتها الأزلية مع الأكراد، مستغلاً العلاقة الجيدة والمتوازنة مع الولايات المتحدة والشعبية بين الإسلاميين والرسائل الدافئة والمطمئنة لإسرائيل مؤخرًا.
خروج الجيش من الحياة العامة هو انقلاب إردوغاني سلمي نجح، بينما كانت محاولة الانقلاب عشوائية مهزوزة تفتقد أدنى شروط نجاحها حتى بدأ بعض المهووسين بنظرية المؤامرة من الطرفين يعتقد أنها تمثيلية والضفة الأخرى تقول مدعومة من الخارج، دون أن ننظر إلى السياق الداخلي التركي وكيف كسب إردوغان مجلس الأمن القومي لصالحه وهو الذي كان بيد الجيش تاريخيًا، بل فقد صفة «الإلزام» للحكومة، مستفيدًا أيضًا من بسط قبضته الأمنية شرق البلاد وفي الجنوب، حيث تكدس المعارضة الكردية التي لا يتحدث عن حالها مناصرو إردوغان.
والحال أن مركزية إردوغان وتفوق حزبه اقتصاديا عجل بترهل المؤسسة العسكرية وانقساماتها، وهذا ما يفسر طبيعة رتب من قاموا بالانقلاب والطريقة الارتجالية التي آلت إلى الاصطدام بقوات الشرطة والأمن التي تتبع وزارة الداخلية بعد أن كانت ضمن مهام وزارة الدفاع.
الأكيد أن إردوغان واجه الانقلاب الارتجالي بذكاء شديد عبر أدوات تحشيد للشارع، فهو لم يعرض كلمته بشكل متلفز ومرتب ومنمق بل كان عبر طابع شخصاني ولغة بسيطة يستنجد فيها بالديمقراطية في رسالة للأحزاب العلمانية التي بادرت بالرفض، كما وصف فتح الله غولن والانقلابيين بالخيانة لسحب الشرعية.
والسؤال الأهم إلى أين يتجه إردوغان وحزبه بعد الفشل.. هل سيقع فريسة ردود الفعل الخارجية ويستمر في لعب دور الخليفة خارجيًا، والمهم بتنمية واقتصاد بلده وعدم المساس بإرث الكمالية كما هو خطابه الداخلي؟