هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

انتصار إردوغان لا يترجم بالانتقام!

عام 1999، سجن رجب طيب إردوغان لمدة 4 أشهر بسبب بيت شعر في قصيدة له، جاء فيه: «المساجد ثكناتنا.. القباب خوذاتنا.. المآذن حرابنا.. والمؤمنون جنودنا»، وعاش ليتحقق له ذلك ليل الجمعة – السبت الماضي، ليلة الانقلاب العسكري المشؤوم، إذ ساعده الانقسام الحاد في القوات المسلحة التركية، إضافة إلى دهاء إردوغان وقدرته على دفع الآلاف من أتباعه إلى التحدي والخروج إلى الشوارع، وأيضًا مع اندفاع الآلاف من أتباع الأحزاب المعارضة له إلى الشوارع وإدانة الانقلاب، وكذلك المنظمات المدنية التي رأت في الانقلاب خطرًا أكبر على الديمقراطية من حكم إردوغان وممارساته المتشددة.
ما زالت الأمور غير واضحة ومحددة. فالمسؤولون أكدوا أن الجنرال محمد ديستشي (شقيق نائب في حزب العدالة والتنمية الحاكم) أعطى الأوامر للبدء في الانقلاب، والإعلام التركي أضاف اسمي الجنرال أمين أوزتورك، القائد السابق للقوات الجوية (نفى)، والجنرال متين لييديل، رئيس تدريب القوات البرية وقيادة العقيدة. والأخير كان عضوًا في المجلس العسكري الأعلى الذي من آليته أن يطهر الضباط الكماليون (نسبة إلى كمال أتاتورك) الجيش من «الأعداء الإسلاميين». لقد كان المسؤول عن هذا التطهير، وحكومة إردوغان تتهمه الآن بأنه من جماعة فتح الله غولن الإسلامية، وهو أمر لا يمكن تصديقه.
اللافت في المحاولة أن الانقلابيين نجحوا في القيام بها، وتسيير دبابات، وتحليق طائرات هليكوبتر و«إف 16»، وهذا يؤكد على الجرأة، وعلى ثغرات في أجهزة الاستخبارات، وكذلك في القوات الأمنية القوية تحت حكم الرجل الواحد القوي.
إن المحاولة كانت ضربة لهيبة إردوغان، ولهيبة الدولة، وكي لا ينهار كل ما بناه خلال 13 عامًا قد يضطر إلى الاندفاع، ليظهر أنه استرجع السلطة، وقد يعمد إلى ملاحقة أوسع للمعارضة، والدفع إلى تجميع كل السلطات بين يديه، لإجراء تغييرات دستورية، ولقد كشف عن هذا النوع من «العزم»، ليل الاثنين الماضي، في حديثه إلى شبكة «سي إن إن».
هناك من يقول إنه ليس من مصلحة أحد أن يخرج إردوغان أكثر قوة بعد المحاولة، وتخرج تركيا على ضعف.
منذ 3 سنوات دأب إردوغان على اتهام غولن بكل شيء، وذلك بعد أن كشفت حركة الأخير عمق الفساد المستشري في تركيا. ومن المعروف أن لغولن مؤيدين في الجسم القضائي، وفي الشرطة، لكنه يفتقر إلى مؤيدين في المؤسسة العسكرية، حامية علمانية الدولة. ولأن إردوغان يتهم باستمرار غولن، فمن الصعب أخذ الاتهام الأخير بجدية.
إن كان غولن أو غيره، فلقد أضعف الانقلاب سمعة تركيا، وجاء إردوغان ليشوه المؤسسة العسكرية. ومن المؤكد أن هذا سينعكس على الوضع الاقتصادي، ولن يعود الاعتماد الدولي على تركيا كما كان قبل المحاولة، وسيزيد الاعتقاد بأن تركيا لا ترى «داعش» العدو الرئيسي لها. لكن قاعدة «إنجرليك» تبقى أساسية للتحالف الدولي في حربه ضد «داعش». أما الحلف الأطلسي، فلن يتأثر. وإذا وقع انقلاب جديد، غير عسكري، بل تقوم به حكومة إردوغان ضد كل أطراف المجتمع المعارض له، وذلك من أجل جمع كل السلطات، فإن علاقات تركيا ببقية العالم ستتأثر.
تحدث بن علي يلدريم، رئيس الوزراء، عن عقوبة الإعدام، وكرر ذلك إردوغان، ثم طالبه به أتباعه، فقال: «في دولة ديمقراطية، يكون للناس ما يريدون». وعقوبة الإعدام ألغيت في تركيا من أجل أن تدخل في مفاوضات مع المجموعة الأوروبية، حسبما يتطلب «ميثاق كوبنهاغن»، إذ لا إعدام في أوروبا.
وحكومة إردوغان رأت في فشل المحاولة انتصارًا للديمقراطية، لكن الانتصار لا يترجم بالانتقام. وقد قال لي مصدر تركي: هذا ليس انتصارًا للديمقراطية، خصوصًا إذا راجعنا سجل «حزب العدالة والتنمية»، فمنذ 3 سنوات، إثر مظاهرات «ساحة تقسيم»، وخطوات الحزب الحاكم متلاحقة للركوب على الديمقراطية، وإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. ويضيف: من المبالغ فيه القول إن إلحاق الهزيمة بالانقلاب هو انتصار للديمقراطية. يجب أن ننتظر لنرى «الانفعالات».
لكن، يرد البعض على ذلك بأن إردوغان منتخب ديمقراطيًا من الشعب. ويقول محدثي: هنا يكمن الخطر، إذ قلص تصورهم للديمقراطية بنتائج صناديق الاقتراع فقط. فمنذ انتخابه رئيسًا والدستور معلق، وكذلك حرية الإعلام واستقلالية القضاء. والآن، بسبب المحاولة، فإن المؤسسة العسكرية جرى احتلالها بقصد السيطرة عليها.
واعتبر محدثي أن الانقلاب طعن الديمقراطية «المتهالكة المريضة» في تركيا، وطعن تركيا بالظهر، ودق المسمار الأخير في نعش أحلام الشعب التركي. وأثاره أن التصرف الجنوني للانقلابيين اعتبره إردوغان «هدية من الله» لتطهير الجيش والإدارة والمؤسسات. لكن من هم المتآمرون؟
يقول: إن آلة بث الأخبار الخاطئة انطلقت، واعتمد عليها الإعلام الغربي. فمصادره، من المعارضة والأحزاب القومية، تشير إلى تورط كبار الضباط «وستكشف الأيام أكثر». ويضيف: من السخرية القول إن الجيش التركي، وهو جيش قوي وجزء كبير من الحلف الأطلسي، مخترق بهذا العمق من حركة غولن.
إذا تعدى إردوغان على القضاء، فسوف تتعرض سمعته للخطر. فأوروبا تمسكت بهذا الجزء، وأصرت على أن المحاكمات يجب أن تكون قانونية. أما الأميركيون، فإنهم منزعجون منه، خصوصًا بعد تلميحه إلى أن لأميركا ضلعًا في المحاولة، لذلك قال جون كيري، وزير الخارجية: «لم نتسلم طلبًا رسميًا لتسليم غولن». ثم إن عملية التسليم لا تقوم على اتهامات عشوائية وشخصية، بل على إثباتات وأدلة.
هناك انقسام واضح في المجتمع التركي. فلم يعتد الأتراك على سماع صوت المؤذنين بعد منتصف الليل يدعون إلى الجهاد والنزول إلى الشارع. والمهم هو القرار الذي سيتخذه إردوغان، فإما أن يعادي نصف الشعب التركي المسلم العلماني والمؤسسات، أو يرى فرصته للمصالحة. لقد رأى بعينيه أن كل الشعب وقف ضد الانقلاب، لهذا عليه أن «يأخذ نفسًا»، ويغير من نهجه الهجومي. هو يريد أن يعطي الثقل بفشل الانقلاب لدعوته هو، إنما الذي أفشل الانقلاب هو الشعب، ومن ضمنه المعارضة. نزل الكل إلى الشارع لأن كابوس الانقلابات انتهى، وكما رددوا: «ديمقراطية سيئة أفضل من انقلاب عسكري يعيد تركيا 30 سنة إلى الوراء».
أيضا، على إردوغان أن يأخذ الجيش بالاعتبار. فالجيش يريد الاستقرار. وإردوغان أذاق تركيا طعم الاستقرار، فقد جاء بالأكراد أولاً، انطلاقًا من معادلة إسلام مع إسلام، وأن الإسلام يضم كل القوميات. ثم انقلب عليهم. وساهم باستقرار اقتصادي، فمشروع «العدالة والتنمية» مبني على الازدهار الذي وفره الـ50 في المائة ممن انتخبوه، فصار بينهم أثرياء ورجال أعمال. ورفض إردوغان حصر الازدهار بالنخبة التقليدية. لذلك، لا بد الآن من مراجعة الأداء، ومن المؤكد أن الحزب الحاكم سيدرس الأسباب التي أوصلت الوضع إلى حد مهد لمحاولة الانقلاب.
هناك اعتقاد راسخ بأنه سيستعجل في جمع كل الصلاحيات بين يديه، لكن لن يكون بمقدوره فعل ذلك بسهولة. فقد اضطر، وهو المعادي والمحارب لوسائل الاتصال الاجتماعي، إلى اللجوء إلى الـ«سمارت فون»، وإرسال الرسائل عبره. ولبى الشعب النداء، فأنقذه وأنقذ تركيا. إذن، الشعب هو المنقذ، وليس إردوغان الذي سيدرك حتمًا أن الوضع اختلف جدًا عن السابق. فلا يستطيع أن يتمسك بعناده، وقد عرف أن الشعب الذي وقف معه وأنقذه صار متمكنًا، وأنصاره الذين لبوا نداءه، وأعادوه، ورأوا في الوقت نفسه تأثيرهم على الجيش، لا يستطيع أن يكافئهم بإعادة الساعة إلى الوراء. إن خروجهم إلى الشارع يعتبر دفاعًا عن الحكم المدني. نعم، كان بينهم موتورون، ذبحوا جنديًا، أو داسوا على الجنود وعروهم، لكن الأكثرية شعرت بأنها أنقذت الجمهورية، وحافظت على مكسب الحرية. أتباع إردوغان تمكنوا وصارت ثقتهم بأنفسهم أقوى. كيف سيترجم إردوغان هذا كله؟
ليل الجمعة – السبت، عاشت تركيا فيلمًا من أفلام الرعب. وتخوف عدد من الأتراك من أن تصبح بلادهم مثل سوريا أو العراق. وتحمل الشعب المسؤولية، وكذلك العسكريون الذين رفضوا دعم الانقلابيين. فهل يكون إردوغان قادرًا على تحمل هذه المسؤولية، أم يريدها ثورة انتقامية تتحول إلى حرب أهلية بعد أن يكون قد دمر الجيش؟!