رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

تجديد الخطاب واستعادة التماسك والسكينة

منذ أكثر من عقد، وبعد ظهور «القاعدة» خاصة، كثُر الحديث عن تجديد الخطاب الديني. فقد أنذر ظهور «القاعدة» وصعودها بظهور تيار قوي للقطيعة مع العالم باسم الدين فيما صار يُعرفُ بمقولة «الفسطاطيْن». وهكذا، فإنّ دعوات تجديد الخطاب، إنما رمت إلى مكافحة هذه الرؤية الفصامية الضيقة، التي تضع المسلمين والإسلام في مواجهة العالم، باعتبار أنّ ذلك هو ما يقتضيه الدين، وكأنما ديننا هو وليد اليوم، وهؤلاء رسله ودعاته. بيد أن «مقتضيات» الخطاب المتشدد هذا تجاوزت كثيرًا مسائل العداء للعدو البعيد، وارتدت إلى الدواخل تحت وطأة المنطق ذاته. فإذا كنتَ تحكم (لاعتباراتك الخاصة) على إنسان أو جهة بالكفر، ثم تنصرف إلى مقاتلته أو مقاتلتها؛ فبالمنطق نفسه يمكنك التوجُّه لمكافحة طرفٍ أو أطراف بالداخل العربي أو الإسلامي، بحجة التغريب والعلمانية، أو بحجة مخامرة الاستعمار والمستعمرين. فتكفير الخارج تبعه تكفير المخالف، ثم تبعه تكفير من لا ينهض مع الناهضين لإقامة الدولة الميمونة، وسواء أكان من أهل السياسة أو من ذوي المنزع الديني.
ما أمكن إقناع هؤلاء المنتهكين للحُرُمات، لأن معظمهم مقتنعٌ بما صاروا إليه.
إنّ المخيف والمخوف أنّ دعوات التكفير والاستحلال هذه ما بقيت معزولة أو من صنع قلة ذات توجهات خاصة منحرفة، بل إنّ هذا «الخطاب» (إذا صحت تسميته كذلك) صارت له جاذبية لدى فئاتٍ من الشباب والفتيان ذكورًا وإناثًا. وهؤلاء يستندون في قراراتهم بالانضمام إلى المتطرفين أو القيام بنشاط متطرف بالدواخل أو ضد الخارج إلى عدة أمور: الاعتقاد أنّ الآخرين يعتدون على الدين، وأن كلَّ أحد مكلَّفٌ بالرد على العدوان، وأنها محنة تتمثل في أنّ الأمة انحرفت، وأنه لا بد من استعادة الهيبة للدين بالإرعاب، ولا بد من إقامة دولة أو كيان يكون نموذجًا للنظام الإسلامي الحق. وهذه كلُّها أوهام مركَّبة على أوهام. فما كان المسلمون مستهدَفين، وهم اليوم كذلك. وما كانت حرماتهم منتهكة، وهم اليوم كذلك. وما كانت هناك حاجة لإقامة دولة على شاكلة ولاية الفقيه أو «داعش»، إذ إنهما لا يشكلان نموذجًا من أي نوعٍ يستحق الاتّباع أو التقليد، وهما الآن مستهدَفان.
فبسبب العداء للآخر من جانب إيران و«القاعدة» و«داعش»، والتصرفات التي قام بها هؤلاء، اندفع العالم نتيجة الإحساس بالخطر إلى المواجهة. وهي مواجهة شرِسة لا يُفرَّقُ فيها بدقة بين المسلمين والإسلام. ولذلك فإنّ هؤلاء المتشددين الذين يمارسون أعمالاً إرهابية هم الذين دفعوا دولا كثيرة باتجاه العداء للمسلمين والإسلام؛ وذلك للأضرار التي ألحقها بهم الإحيائيون المتشددون ومبادرتهم للإيذاء دون أن يفهم الغريب عِلَلَ هذا العداء البغيض الذي لا يدرك له كنهًا أو تعليلاً.
لقد تحولت دعوات تجديد الخطاب الديني الآن إلى برامج لمكافحة التطرف والإرهاب، تقوم بها وعليها الجهات الدينية والأمنية، كما تقوم عليها استراتيجيات الأجانب المتضررين من الهجمات الإرهابية على ناسهم وديارهم. وهذه جميعًا إجراءات وقائية ودفاعية ولا غبار عليها، لولا ما صار يعكّر استقامتها من تمييزٍ ضد المسلمين والإسلام، نتيجة الإيذاء الذي أنزله المتطرفون.
بيد أنّ من المهم أيضًا إسقاط الجاذبية عن هؤلاء الإرهابيين وأفكارهم، بحيث لا تتكون أجيالٌ جديدة تمارس العنف والتوحش الذي يُمارَسُ الآن، بل منذ مدة. كيف يمكن استعادة هيبة الحُرُمات الثلاث؛ وهيبة حُرمة النفس الإنسانية؟ وهيبة التوقف عن الاندفاع لممارسة العنف لأي سبب؟ لقد وجدْتُ بعد تجربة أنّ العوامل الدافعة للعنف باسم الدين، وليس أي عنف، تتمثل في ذلك «الوسواس» القهري بأننا واقعون تحت ضغوطٍ شديدة في الدين والمجتمعات، وأنه لا بد من الدفاع. ولا شكَّ أنّ بعض ذلك صحيح، لكنّ هؤلاء الصِغار القلة ليسوا وحدهم المسؤولين، كما أن العنف العشوائي هذا يزيد الضرر ولا ينفعُ في الدفع والوقاية، بل يزيد من الاندفاع باتجاه النيل من هؤلاء المسلمين المؤْذين. ولذلك فإنّ السبيل بالفعل لإزالة هذا الانطباع هو إعادة التربية التي تُعطي ليس الصورة الأخرى المضادة عن العالم، بل الصورة المختلفة والمتنوعة. ثم إنّ من الضروري إعطاء الصورة الأخرى لشبابنا عن مجتمعاتنا. فالمجتمعات ذات أحاسيس عالية بالمسؤولية، وليس صحيحًا أنّ هؤلاء الفتيان هم الوحيدون ذوو الحساسيات الخاصة والمسؤولة. ولذا فإنّ العملية التربوية هي عملية اجتماعية ينبغي أن يحس من خلالها الشبان المتدينون أنهم محتضنون، وأنّ هواجسهم مهما بلغ من خصوصيتها هي موضع تفهمٍ واحترام. إنها مسؤولية العائلة والمدرسة والمجتمع الأوْسع، بما في ذلك المؤسسات الرسمية.
لقد قرأنا وسمعنا جميعًا عن الفتيان الذين اعتدوا على أهلهم وأقاربهم لأنهم يمتلكون أفكارا دينية خاصة، ولأنهم يعتقدون أنّ أهلهم أقل اهتماما منهم بالاعتبارات الدينية. وبالطبع، فإنّ ذلك ليس صحيحًا على الإطلاق، إنما من ناحية أخرى، يأتي موضوع «السكينة»، وهي إحساس بإمكان الركون إلى الأسرة وإلى المدرسة وإلى المجتمع. ومن الواضح أنّ هناك جزءًا من المشكلة يكمن، أو يبدو في الفقد أو الافتقاد، يقف وراء هذا الثوران الذي نال من أبناء الجاليات في الجيلين الثاني والثالث، لكنه نال من دواخل مجتمعاتنا أيضًا. ويبدو ذلك ليس في عدم التفهم أو في الضغط المتزايد؛ بل يظهر في عدم الاهتمام والغربة بداخل الأسرة، وبداخل المجتمع. إنها جُزُرٌ تنعزل وتتفاقم في عزلتها وتفردها. ولذا فإنّ العملية التربوية التي نتحدث عنها ليست مدرسية وحسْب؛ بل هي أُسرية واجتماعية أيضًا، وهي في جزءٍ منها موجَّهة للأهل وللمدرّسين وللمحيط الاجتماعي. إنها مجتمعاتٌ جديدة اخترقتها الفضائيات، واخترقتها وسائل الاتصال، واخترقتها العشوائيات. ومن الواضح أنّ الشبان المخترَقين هم في الغالب من الأُسر الأقل كفاية، والأكثر مشكلات بالمعنى التعليمي، وبالمعنى الاجتماعي. وتعود هنا مشكلة أو مميزات الطبقات الوسطى التي يتعلم أبناؤها بالمدارس الخاصة بالداخل، ثم يذهبون إلى الخارج. وتحدث عندهم مشكلاتٌ، لكنها أقل بكثيرٍ في تلك الأوساط، من مثائلها لدى فتيان أسر الحاجة والغربة.
إننا نواجه مشكلات متراكبة، بدت للعيان في ظاهرة التطرف. وهي مشكلاتٌ موجودة في المجتمعات غير الإسلامية، وإن لم يكن الدين والتطرف الديني عنوانًا لها. ولذا فإنّ خطاب التجديد الديني، الموجَّه للمجتمعات وللعالم، ينبغي أن يلتفت أيضًا إلى مشكلات الشباب، سواء أكانت تطرفًا دينيًا أو غربة من أشكالٍ وأنواع أخرى، مثل المخدرات وهموم أوقات الفراغ، كما هموم وتحديات التعليم وسوق العمل. كان عمر بن الخطاب يقول: «نشّئوا أولادكم على غير ما نشأتم عليه، فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم».