بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

كلٌّ له «أخٌ أكبر»؟

ليس بالوسع تقديم جواب جازم عن تساؤل العنوان، فضلاً عن أنه من الأفضل للكاتب تجنب التعميم، خصوصًا إذا تطلب موضوع المقال إعطاء صفات تخص أكثر من شخص، وتطال عموم المجتمع، أو طبقات وشرائح محددة منه. أسارع أيضًا لتوضيح أنني لست أقصد الأخ بالمعنى العائلي، ولا «أخ» جورج أورويل «الأكبر». فيما يخص الحالة الأولى، من ذا الذي ليس يحتاج حنو أخيه الأكبر منه عمرًا، والأخبر تجربة؟ أليست تلك حقيقة تتوافق مع نواميس الحياة وفق كل الثقافات ومختلف الأعراق؟ بلى. أما في الحالة الثانية، فيمكن القول إن حضور «الأخ الأكبر» أمسى هو أيضًا إحدى حقائق المجتمعات العصرية، حتى أنه كاد يصبح موضع قبول عوام الناس والخواص، رغم ادعاء النُخب، تحديدًا، بعكس ذلك. معلوم أن ذاك «الأخ الأكبر» ليس بشخص قائم بذاته، أما التشخيص الرائج له فبرع به جورج أورويل (اسم مستعار للكاتب إيريك آرثر بلير) في رواية (1984) الدائمة الحضور العالمي. إنه يبحلق جاحظ العينين، شغله الشاغل هو التلصص على دقائق شؤون غيره وثوانيها، لا شيء يشبع نهمه لتتبع تفاصيل التفاصيل، خبايا الخبايا، يطلب المزيد دائمًا، وإنْ تثاقل تُبّعٌ له إزاء ثقل ما يحمّلهم من أعباء، سارع يذكرهم أن العمل بطبيعته مُتطلبٌ. أما إذا تجرأ أحد فتذمّر، فإن التذكير ينتظره بأن الداخل إلى حمام بخار ذي مزايا ونفوذ، ليس له توقع الخروج منه، أيما نهار شاء. ذلكم هو «أخ» أورويل «الأكبر»، الذي ما فتئ يستنسخ ذاته بغير شكل، وأكثر من مسمى، عبر مراحل عدة من تاريخ البشر، بكل ثقافاتهم. بيد أن نموذج «الأخ الأكبر» يتميز بسرعة التكاثر في مجتمع عن آخر. كأنما ثمة مجتمعات استعصى عليها أن تصاب بالعقم أشكال الطغيان فيها، فلا يلد ركام الطاغية من هو أطغى منه، وكأنما بين الأمم مَنْ قُدّر لها أن تظل في سباق مع ظِلها، فلا للأمام تمضي، ولا بقعود القرفصاء تقنع، فتكف عن إرهاق محاولة اللحاق بأوهام.
ربما من الصعب إقناع أحد أن ما ورد أعلاه بدأ بخاطر بسيط نشا أساسًا بعدما طالعت قصة في عدد السبت الماضي من «فايننشال تايمز»، الجريدة الأعرق بين ما تبقى من صحف العالم الرصينة، التي ما تزال قابضة على الجمر، إذ تتنفس من رئة الحبر، وتلبس كل يوم ثوبًا زاهيًا من ورق برتقالي. بين كل ما قرأت عن استفتاء خميس بريطانيا الأوروبي، توقفت أمام العنوان التالي: الانقسام الكبير
Great Divide.
ثم: الجيل الأصغر يصب جام الغضب على الناخب الأكبر
Younger generation vents fury at older voters
ها هي أم الديمقراطيات تؤكد حقيقة أن ظلم جيل لآخر حالة عابرة للقارات، ولا تقتصر على مجتمع دون آخر. ربما بدا ما كُتب وقيل وأذيع وعُرِض، بشأن الاستفتاء، منذ صباح الجمعة الماضي، وما تمخض عنه من زلازل وارتدادات، كما الطوفان، إنما قليل في خضم ذلك الكثير، تناول تأثير فارق العمر بين جموع المصوتين مع أو ضد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وفق قصة FT تقول كلوديا غوردون: «لقد استفاد الجيل المتقدم في العمر طوال الأربعين سنة الماضية من فوائد عضوية الاتحاد الأوروبي، وهم الآن يحرموننا منها». تضيف رييس ووترفيلد: «نعرف ما نريد من البقاء في الاتحاد الأوروبي، لكن كبار السن انتزعوه من أيدينا». جورج فوللر تساءل: «هل تجوز المغامرة بمستقبلنا؟». سبب جام الغضب هذا أن أغلب المتقاعدين بالمملكة المتحدة صوتوا مع خروج بلدهم من الاتحاد الأوروبي، فشكلوا بذلك، حالة «أخ أكبر» تحكم في غد الجيل الأصغر الذي، مهما قيل بشأن قوة اقتصاد بريطانيا، تحتم مصلحته أن تنفتح بلده على محيطها القاري، وتثبّت حضورها في قلبه، لا أن تعيش على حافاته. هكذا طغيان من جانب كل «أخ أكبر»، قلما يظهر تأثيره السيئ على الفور، وبطء اتضاح سوء ذلك التأثير هو مكمن خطره الأكبر. أما عن الأمثلة في تجارب حركات وأحزاب العالم العربي، فحدّث بلا حرج. انظر كم من قيادة تنظيم وحزب وحركة وضعت غد أجيال مجتمعاتها على كف «أخ أكبر» من خارج أرضها، وليست تعنيه من قضاياها سوى مكاسب يجنيها لنفسه، وربما لقلة حوله. بالمناسبة، في السياق ذاته، لعل التهنئة بتطبيع علاقات أنقرة مع تل أبيب، مستحقة لكل مراهن على «أخ أكبر» بأي مكان وكل زمان.