أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

اللغز المسمى دونالد ترامب

على الرغم من تصدره عناوين الأخبار لما يقرب من عام كامل، وليس دائمًا لأفضل الأسباب، لا يزال دونالد ترامب لغزًا محيرًا من ألغاز السياسة الأميركية. وهناك أسباب عدة لذلك.
بادئ ذي بدء، إنه ليس من السياسيين المحترفين في نظام يهيمن عليه حفنة من المتخصصين، على الأقل منذ ستينات القرن الماضي. ونتيجة لذلك فهو يجهل كيفية ممارسة فن اللباقة السياسية، ويفضل التفوه بأول ما يخطر بباله على الفور من دون تفكير.
وفي بعض الأوقات، واجهته الصعاب في العثور على لسانه عندما يجد أنه قد فقد عقله في أثناء الحديث.
والسبب الثاني هو أن ترامب من المشاهير في بلد المشاهير، حيث حل المشاهير محل آلهة جبل أوليمبوس ككائنات تحظى بالإعجاب والفضول والحسد.
والفارق الملاحظ هنا يكمن في أن معظم المشاهير معروفون، يتابعهم الناس عن كثب بسبب أنهم نجحوا في صناعة أسمائهم في عالم الشهرة، وفي مجال معين برعوا فيه، أما ترامب فكان يلعب على كل الحبال في آن واحد. ولصياغة العبارة في سياق أكثر لباقة، فإن ترامب هو زعيم التنوع والتعدد بلا منازع. فلقد عمل في مجال التطوير العقاري، وامتلك أحد الكازينوهات، وعمل مشغلاً لشركة من شركات الطيران، ووكيل سفريات ورحلات، ومندوب مبيعات للدرجات الجامعية، ومضيفًا لأحد البرامج التلفزيونية، وراعيًا لبطولات الغولف، ومستشارًا للمستثمرين الأميركيين، والإسبان، والروس، والأوروبيين، والصينيين، والإيرانيين، والأتراك، والعرب الساعين في كثير من الأحيان إلى قضم قطعة – قد تكون بعيدة المنال – من الكعكة الأميركية الكبيرة.
كذلك، لم يكن ترامب خريج أي من الجامعات الأميركية المرموقة، والمبالغ في رقيها في كثير من الأحيان، التي يتخرج فيها في غالب الأمر النخبة الأميركية الراقية منذ القرن الثامن عشر. وربما لأجل ذلك السبب تحديدًا يبدو المرشح الرئاسي المحتمل للحزب الجمهوري مثل العامل الأميركي من أصحاب الياقات الزرقاء الذين يعكفون على تناول الوجبات السريعة في أوقات الراحة، أكثر من كونه عضوًا من أعضاء جماعات الضغط السياسية الشغوفة بالمأكولات والمشروبات الفاخرة، وغيرهم من السياسيين في نخبة العاصمة واشنطن الراقية.
ويختلف ترامب عن النخبة الأميركية الحاكمة لسبب آخر.
إنه لا يعمل ضمن سياق ثقافي ثابت، يزدهر أو يضمحل تحت ضغوط الذكريات العتيدة أو المواقف الآيديولوجية الراسخة، وأفضل ما يمكنه فعله هو التجول في كل مكان رافعًا شعاره الساذج «لنجعل أميركا أمة عظيمة مرة أخرى».
يدرك ترامب بالغريزة أنه في ظل الديمقراطية، فإن القاعدة الانتخابية يسهل إسعادها ويصعب إرضاؤها.
وربما كان ذلك هو السبب في أنه عند التعامل مع القضايا المعقدة، يفضل الطرق أو الحلول المختصرة. فإن كان الناس يعانون من ارتفاع معدلات الجريمة والبطالة، وانخفاض القوة الشرائية، فلماذا لا ننزع إلى الماكينة البشرية البدائية، من حيث البحث عن كبش فداء، بدلاً من التعب في حل المشكلات، أو في حالة ترامب، كبشي فداء: الإسبان والمسلمين؟
وهذا التوجه سوغ للكثيرين وصف ترامب واتهامه بالعنصرية.
ومع ذلك، فإنني واثق من أن ترامب ليس عنصريًا بالمعنى المعروف، إذ كان فقط غير قادر على المحافظة على أي موقف يتخذه لأي فترة ممتدة من الوقت. فإذا ما أصر على موقفه، فذلك بسبب أن توجيه أصابع الاتهام إلى الإسبان والمسلمين، في معرض الشهور الأولى من الحملات الانتخابية التمهيدية، يكسبه المزيد من الأصوات. وعلى أية حال، فلا الإسبان ولا المسلمون يمثلون أي عرق معين من الأعراق.
ويدرك ترامب، في أعماق نفسه، أن حديثه حول تشييد «الجدار» على الحدود الأميركية المكسيكية لن يخلق نمطًا جديدًا من الهندسة المعمارية، ناهيكم من مدرسة جديدة من مدارس الفكر السياسي. كما أنه يدرك تمامًا أن خطته لحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة لديها فرصة أكبر للنجاح من خطة الرئيس الأميركي الراحل جون آدامز لحظر الزواج بامرأتين، والحظر الذي فرضه الرئيس الراحل هاري ترومان على الشيوعيين. ويشدد ترامب على «تيمته» بسبب أن صداها يتردد بين أوساط قاعدة دعمه الانتخابية. وإن كان ذلك لا يمنحه شعبية جيدة في أوساط نخبة المجتمع الأميركي، فإن ذلك أمر لا يعنيه في شيء.
وفي حين أن السياسي الأميركي التقليدي يتباهى بشعبيته، فإن ترامب يفاخر بكراهية الناس له. وفي حين أن السياسي التقليدي يسعى وراء السمعة والشهرة والمكانة، عن طريق الاعتذار للجميع كافة ومن دون استثناء، كما كان الرئيس باراك أوباما يفعل في مختلف دول العالم، فإن ترامب في المقابل يزرع التمادي ونفاد الصبر كقيمة من القيم.
وفي حين أن الآخرين يرفضونه ويصفونه بأنه زعيم التبجح والتباهي والصلف، فإن ترامب يرى نفسه معبرًا عن الصوت الشجاع للمواطنين الأميركيين الذين لا صوت لهم.
زيارة واحدة إلى برج ترامب الشهير في الشارع الخامس في نيويورك، حيث نجح في صناعة اسمه البارز منذ ثمانينات القرن الماضي، قد توفر بعض الأدلة على شخصية الرجل المستقلة الذي قد يصبح الرئيس القادم للولايات المتحدة.
زرت البرج للمرة الأولى عام 1983، عندما كان ناشري السابق يرغب في شراء شقة هناك، وابتاعها فعلاً. ولقد وجدت البرج عبارة عن مزيج من الفن الهابط والرديء، مع بريق كاذب يستخدم للتذكير بالنزعة الغرائبية الشرقية القاتمة. ومع 58 طابقًا فقط، لا يعتبر هذا البرج من أعلى ناطحات السحاب في مانهاتن، وهو في ارتفاع لا يمكنه من ادعاء سحر المباني الأقل ارتفاعًا.
كان من الواضح أن المهندس المعماري قد حاول الاستفادة إلى أقصى درجة ممكنة من مساحة المبنى المحدودة نسبيًا. وكان المبنى يواجه الشمال، وبالتالي فهو لا يجتذب أيًا من شمس مانهاتن الدافئة من دون توزيع الضوء بوصفه التيمة الرئيسية للمبنى. وللتعبير عن لمحة من لمحات الرقي، استأجر ترامب عازفة هارب شقراء ذات شعر مسترسل ذهبي حتى تعزف بأصابعها مقطوعات موسيقية هادئة من تأليف باخ وهايدن. كما يوجد هناك مطعم على طراز الكونتيننتال، الذي يوحي بأن الطعام دون المتوسط والفواتير باهظة، والذي أضاف إضافة لازمة إلى المزاج العام للمبنى.
وفي الأسبوع الماضي، وفي أثناء المرور عبر شوارع مانهاتن بصحبة صديق من الصحافيين، قمت بزيارة أخرى إلى برج ترامب.
لقد شاخ المبنى وهرم، وليست هناك عبارة ألطف من هذه أصفه بها الآن.
اختفت عازفة الهارب الشقراء، وينتشر في كل مكان حراس الأمن الضخام بتلك الأسلاك الملتوية الموصلة إلى آذانهم وهمهمتهم بكلمات غير مفهومة عبر ميكروفونات متناهية الصغر. وبمجرد دخول المبنى، يخضع المرء إلى تفتيش ذاتي كالذي يجري في المطارات، سواء كان المرشح الرئاسي في منزله العلوي أو في مكتبه. ولم تتغير المصاعد الضيقة منذ سنوات، وهي لا تزال تصدر صوت الأنين القديم الذي تتميز به، ولقد تم تعديل نظام الإضاءة ليتسق مع الاقتصاد في الكهرباء، مما يوحي بدرجة أعمق من القتامة والإظلام.
ولقد تخلى المطعم العتيق عن مزاعمه الفارغة عن الطعام الفاخر، وبدلاً من ذلك صار يقدم البيتزا والهامبورغر ومجموعة متنوعة من الآيس كريم لإرضاء العملاء. ونزعة الفن الهابط في المبنى وجدت ما يعززها من خلال الموسيقى الخلفية التي تعزف مقطوعات من أغاني دوريس داي، وهي مطربة أميركية من الدرجة الثانية ظهر اسمها لبعض الوقت في الخمسينات، ولا سيما ألبومها الشهير آنذاك بعنوان «شي سيرا سيرا»، وتعني (ما سوف يكون، سيكون)!
يوجد في البرج مخرج خلفي، يؤدي إلى شارع ماديسون، وهو المخرج الذي غاب عن عيني في زيارتي الأولى عام 1983. وهو يطل على شرفة من مستوى الشارع، مع طاولات معدنية يحتلها موظفون من الدرجة الثانية، ويتناولون عليها اللفائف المكسيكية المعتادة، وكثير منهم من الإسبان الذين لا يستطيعون تحمل أسعار مطاعم الحي الراقي الباهظة.
على الناحية المقابلة للشرفة، هناك كشك للطعام يقف أمامه صف من الزبائن يذكرني بطوابير البطاطا في الاتحاد السوفياتي السابق. وهناك جهاز تسجيل قديم يبث بعض الموسيقى العربية، ويمنحك صورة لواحة صغيرة في مانهاتن بجوار برج ترامب الشاهق الارتفاع. ويدير ذلك الكشك شاب من القاهرة يدعى زكي، يطلق لحية ظاهرة، ويبيع فيه «الفول» المصري الشهير. أما زبائنه، فهم مزيج من العرقيات المختلفة والأديان المتنوعة التي تعكس في مجموعها التنوع الأميركي المدهش، وهو يقول إنهم يقدرون وجوده هناك، ويحبون الطعام الذي يبيعه المتميز بالطعم اللذيذ والسعر الرخيص.