عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

الواعظ الثوري

الوعظ والتذكير مهمةٌ دينيةٌ لا يكاد يخلو منها دينٌ من الأديان، وفي الوعّاظ أتقياء مخلصون وفيهم أغبياء وحمقى وفيهم باحثون عن السلطة من كل شكلٍ ولونٍ، ولئن تحدث علي الوردي عن «وعاظ السلاطين» في كتابه المعروف، فإننا يجب ألا ننسى «سلطة الوعاظ».
وتكمن سلطة الواعظ الأشد على مريديه وأتباعه، وهي التي يسعى دائمًا لإحكامها، ثم ينتقل منها لفرض سلطته على المجتمع الذي يعيش فيه، وسواء كان واعظًا تقيًا أم غبيًا أم باحثًا عن السلطة، فجميعهم يمارسون سلطتهم على من يؤمن بهم أولاً وعلى المجتمع المحيط بهم بعد ذلك، ثم يتوسع الطموح للسلطة السياسية.
حب الوعاظ للسلطة قديمٌ، ولكنه من ضمن حزمةٍ كبيرةٍ درجت التيارات الراديكالية والإرهابية بأنواعها على محاولة إخفائها عن الناس، والمغيّب من التراث حجمه ضخمٌ جدًا، وإنما انتقت منه التيارات الدينية المعاصرة ما يناسب منظومة الخطاب الديني الجديد الذي بنوه تأثرًا بالتيارات الغربية قوميةً وشيوعيةً، وأوضح الشواهد في الحديث عن محبة الوعاظ للسلطة قول سفيان الثوري الشهير: «آخر ما يخرج من قلب الفقيه حبّ الرئاسة».
كان هذا في زمن الثوري، أما اليوم فجماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف الديني لا تتنافس على مجرد حب السلطة والرئاسة، بل جعلت السلطة والرئاسة غاية الغايات وهدف الأهداف، وبنت عليها تنظيماتها وخطابها وآيديولوجيتها، وكل تاريخها الحديث هو صراع على السلطة، وبناء جميع الطرق وخوض كل السبل للوصول إليها.
الحديث عن سلطة الوعاظ طويل الذيل، وشواهده القديمة كثيرةٌ وشواهده الحديثة أكثر، وكثير منه معروفٌ لدى المتابع والمراقب، ولكن الحديث هنا ليس عن الوعظ بصفته الدينية، أي تقريب الناس لدينهم، بالترغيب والترهيب، ولكنه حديث عن وعظٍ من نوعٍ آخر، وعظٍ ثوريٍ، وعظٍ يراد به نشر أمرٍ ما في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو غيرها، ويراد من خلاله نشر نوعٍ مزيفٍ من المعرفة.
إحدى وظائف الواعظ هي وظيفة تشكيل سلطةٍ من نوعٍ ما، وبث دعايةٍ معينةٍ، ونشر توجهٍ ربما لا يعرف المشارك في نشره أهدافه ولا غاياته ولكنه يجد فيه مصلحةً ما، شخصيةً أو حزبيةً أو تياريةً أو نحوها، وهذا الواعظ الثوري في الغالب ينحاز للحماس لا لشروط العلم، وللانحياز لا لشروط المعرفة، وينشد التأثير جهده، ويتوسل إليه مظانه.
الواعظ الثوري هو مسوّق بلغة الاقتصاد، ومروّج بلغة الإعلام، وهو مهتمٌ بالعلاقات العامة في الغالب لا بتمحيص الأفكار، وهو في هذا على طبقاتٍ، فمن واعظٍ ثوري في السياسة إلى واعظٍ ثوري في الدين، ومن واعظٍ ثوري في الاقتصاد إلى واعظٍ ثوري في الاجتماع ونحوها، والوسائل التي يستخدمها الواعظ الثوري هي في الغالب الوسائل الأقل أهمية أو الأقل وعيًا، وإن لم يمنع ذلك من أن تكون واسعة الانتشار أو التأثير.
ليس في هذه الوظائف حين تكون في مكانها الصحيح ما يعيب، ولكن العيب يكمن فيما تدعيه الدعاية العامة التي يستخدمها الواعظ الثوري دائمًا لخدمة أهدافه، أو ربما الأهداف التي رسمت له، ومن الجيد هنا التركيز على الواعظ الثوري فيما بعد ما كان يعرف بالربيع العربي.
فالواعظ الثوري ناشطٌ سياسيٌ، هو في المعارضة كثيرًا وفي المزايدة دائمًا، وهو حين تنشط الانتفاضات الكبرى أو تحقق أول نجاحاتها تجده في المقدمة مؤيدًا ومنافحًا وخصمًا شديد المراس، وهو يمتلك دائمًا قدرةً على تغيير مواقفه والمزايدة على كل موقفٍ دون تفكير جادٍ في الاتساق والاتصال بين طروحاته.
إن الواعظ الثوري أيًا كان تخصصه أو اهتمامه هو دائمًا مستعد للتقلّب، لأسباب متعددةٍ، سبق ذكر بعضها، وهو في عالمنا العربي، قد يكون سياسيًا انتهازيًا، أو فيلسوفًا آفلاً، أو مفكرًا مقبلاً، أو مؤرخ أفكار، أو قائدًا إعلاميًا، هذا في المستوى الأعلى، قيمةً، وفي مستوياتٍ أقل قد يكون صحافيًا صغيرًا أو مذيعًا أو مقدم برامج، وفي مستوياتٍ أدنى قد يكون مدونًا إنترنتيًا، أو ناشطًا فيسبوكيًا أو «تويتريًا»، أو في أي من مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى.
نقطة ضعف الواعظ الثوري تكمن في عدم إدراك الواقع، وقلة الوعي الذي يجب اكتنازه، ووهن الرؤية المستقبلية، يسيطر فتات المتابعة الشعبوية على تفكيره، ويصير أسيرًا لسلطة الجمهور، ويعميه التفتيش عن أتباعٍ ومتابعين، ومن هنا، فالواعظ الثوري، على استعداد تامٍ للتخلي عن ثقافته أو علمه، وعن نضجه أو وعيه، لصالح أهداف أصغر وأحقر، بحيث تصبح الفوائد الشخصية أو حتى رضا الغوغاء هدفًا ومقصدًا له.
في لحظة ما كان يعرف بالربيع العربي لم تكن المأساة في فقد العقلاء لوعيهم لحظة ما كان يُعرف بالثورة، بل تكمن في تحولهم من مثقفين علميين إلى مثقفين معايريين، أو بعبارةٍ أصح إلى مثقفين منافقين، بمعنى أن ينحوا جانبًا رؤيتهم الحقيقية ونضجهم الثقافي ووعيهم العام، لصالح مسايرة الجموع والجماهير والغوغاء.
واحدٌ من شروط الواعظ الثوري أن يكون متفهمًا لوصول الإسلاميين للسلطة، إما بالتحالف معهم انتخابيًا، وإما بالدفاع عنهم إعلاميًا، وإما بتسجيل معارضةٍ خفيفةٍ فكريًا معهم، مع التأكيد الدائم والمستمر على حقهم في انتزاع السلطة عبر صناديق الاقتراع، أو التأكيد على أن من حقهم أن يتمّ تجريبهم كما جرّب غيرهم، أو التأكيد بعد افتضاح مشروعهم في أكثر من بلدٍ، أنهم لم يمنحوا الفترة الكافية، والتستر المتعمد على جرائمهم.
والواعظ الثوري مهما حاول أن يظهر بمظهر المستقلّ فهو ليس كذلك، بل هو خاضعٌ إما لجماعة من جماعات الإسلام السياسي أو رموزها المتنفذين، وإما مدعومٌ من الدول الراعية للتطرف والإرهاب في المنطقة والعالم، ومعلومٌ حجم الأموال التي تُضخ في الدفاع عن الإسلام السياسي، والتي طالت كثيرًا من مشاهير الوعظ الثوري.
وعي بعض الوعاظ الثوريين بالدور الذي يقومون به وحجم المصلحة الشخصية التي يحصدونها لا ينفي بحالٍ وجود واعظٍ ثوري غبي، مثلما كان موجودًا على الدوام الواعظ الديني الغبي.
أخيرًا، فالواعظ الثوري يجب أن يكون معارضًا على الدوام، لأي مشروعٍ حكوميٍ، أو أي قرار سياسي صائب، أو أي توجهٍ لإصلاح حقيقيٍ، لأن نجاح أي من ذلك هو فشل لدوره وقيمته، وأعجبهم هو الذي يتولى مناصب رسميةٍ ويستمر واعظًا ثوريًا.
[email protected]