عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

هل يحاكم بلير بسبب حرب العراق؟

إذا صدقت التوقعات، فإن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير سيواجه وقتًا عصيبًا مع صدور تقرير حرب العراق الذي طال انتظاره. فبعد سبع سنوات من التمديد والتأجيل، والاستماع للشهادات، والنظر في الوثائق والمراسلات الرسمية، تحدد رسميًا موعد السادس من يوليو (تموز) المقبل موعدًا لصدور تقرير «لجنة شيلكوت» بشأن دور بريطانيا في غزو العراق عام 2003 وما أعقب الحرب من أحداث وتطورات ونتائج. وما إن أعلن عن الموعد حتى انطلق سيل من التوقعات والتحليلات حول التقرير وتبعاته خصوصًا بالنسبة لبلير وعدد من المسؤولين الآخرين.
أبرز ما نشر حول توجهات التقرير حتى الآن، كان ما أوردته صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية هذا الأسبوع نقلاً عن مصدر وصف بأنه قريب من اللجنة ومطلع على فحوى التقرير، قال إنه سيكون شرسًا في انتقاداته لبلير ووزير خارجيته جاك سترو بسبب ملابسات قرار الحرب وما تلاه من تبعات. وذهب المصدر إلى حد القول إن التقرير لن يرحم بلير وسترو بسبب إخفاقات الحرب، كما أنه لن يوجد مخرجًا لرئيس الوزراء الأسبق فيما يتعلق بما يتردد عن أنه قدم التزاما للرئيس الأميركي السابق جورج بوش بالمشاركة في غزو العراق منذ عام 2002، أي قبل عام كامل تقريبًا من شن الحرب ومن الحصول على تأييد البرلمان.
هذه التسريبات تزامنت مع حملة يقوم بها أليكس سالموند عضو البرلمان والرئيس السابق للحزب القومي الاسكوتلندي لإحياء تحركات بين عدد من نواب البرلمان لمحاكمة بلير عن دوره في تلك الحرب، إذا أكد تقرير «لجنة شيلكوت» أنه التزم بمشاركة بريطانيا في الحرب بشكل مسبق للحصول على تأييد البرلمان، ولمناقشة التقارير الاستخباراتية حول امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل. وقال سالموند في تصريحات تناقلتها وسائل إعلام بريطانية هذا الأسبوع: «إذا أثبت تقرير شيلكوت، كما أتوقع، أنه كان هناك التزام مسبق من بلير لبوش خلال لقائهما في مزرعة بوش في كروفورد عام 2002، فإن هذا سيوفر الأسباب الموجبة لمتابعة الأمر (قضائيا)». وأشار إلى أن أفضل طريق لذلك هو اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية.
الدعوة لمحاكمة بلير ليست جديدة بالطبع، وتجد تأييدًا من شخصيات بارزة حتى من داخل حزب العمال الذي قاده بلير لمدة 13 عامًا ووصل به إلى رئاسة الوزراء. فزعيم الحزب الحالي، جيريمي كوربين سبق له أن دعا إلى تقديم بلير للمحاكمة بتهمة تضليل البرلمان والشعب وارتكاب جرائم حرب. وقبل أيام قليلة جدد حديثه عن إمكانية مقاضاة بلير عن دوره في تلك الحرب، إلا أنه بدا غير واثق من احتمال حدوث ذلك. الأمر المؤكد في نظر كوربين هو أن بلير «كذب» على البرلمان والشعب بشأن الحرب وأسبابها، وأنه كان هناك تضليل في تقارير الحكومة عن أسلحة صدام للدمار الشامل.
أما لماذا لم يبدُ كوربين واثقا من إمكانية تقديم بلير للمحاكمة، فلأن المحكمة الجنائية الدولية أوضحت أنها لا تملك الصلاحية ولا الاختصاص لمحاكمة المسؤولين عن «جرائم العدوان» وشن الحرب، بل إن اختصاصها يتعلق بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة في الحروب، وإن كانت هناك مساع لتضمين «جرائم العدوان» ضمن صلاحيات المحكمة بعد مناقشة الأمر عام 2017.
هناك بالطبع من يقترح تقديم بلير لمحاكمة برلمانية، وهو أيضًا أمر مستبعد. فوفقًا لموقع البرلمان البريطاني على الإنترنت فإن آخر محاكمة برلمانية كانت عام 1806، وإن الإجراء برمته أصبح أمرًا عفّى عليه الزمن. ويوضح الموقع أن المحاكمة البرلمانية تحدث عندما يتهم نائب أو عضو بالحكومة بجرائم أو تصرفات لا يطالها القانون، أو لا تنظرها أي سلطة أخرى. لكن مثل هذه المحاكمات، إضافة إلى أنها كانت أمرًا نادرًا، فإنها أصبحت تقليدًا من الماضي، لأن تطور القوانين وشموليتها وتعدد المحاكم المختصة فتحت الأبواب أمام إمكانية المحاكمة أمام القضاء. والبرلمان البريطاني في كل الأحوال لا يمنح حصانة لأحد من المحاكمات الجنائية أو المدنية على أساس أن «كل الناس سواسية أمام القانون»، بل يمنح فقط الحصانة لأعضائه من قضايا القذف والتشهير لكي يوفر فرصة المناقشة والتعبير بحرية من دون الخوف من طائلة الملاحقة القانونية.
هناك أمر آخر، وهو أن «لجنة شيلكوت» لم تشكل لتوجيه إدانات قانونية، بل حددت مهمتها وصلاحياتها في النظر في دور بريطانيا في الحرب والدروس المستقاة من تلك الفترة. لذا فإنها ستكتفي بالإشارة للأخطاء المرتكبة، وتوجيه الانتقادات بغض النظر عن مدى عنفها أو شراستها. ومن هذا المنطلق فإن تقريرها الذي استغرق سبع سنوات لإنجازه، وسيصدر في مليونين وستمائة ألف كلمة، لن يكون سوى «محاسبة سياسية» ومعنوية للمسؤولين المعنيين وعلى رأسهم بلير، تفتح الطريق مجددًا لمحاكمات إعلامية، لكن ليس بالضرورة أمام محاكمة قضائية.