أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

التنافسية في التعليم تحفز الأداء وتقلل الإخفاق

طالعتنا صحيفة «مكة» السعودية بتقرير استقصت فيه نتائج المركز الوطني للقياس والتقويم في التعليم العالي للسنوات الثلاث الماضية، وعرضت خلاله قوائم بيضاء وأخرى سوداء لأفضل وأسوأ مدارس السعودية للمرحلة الثانوية. وهو عمل جيد، لأن عرض وتحليل نتائج التقويم من خلال الإعلام سيثير النقاش في المجتمع ويطرح الأسئلة ويربك المسؤولين عن الإخفاقات.
النتائج أكدت، وبلا منازع، تصدر المنطقة الشرقية في المملكة الصف الأول لأفضل المدارس الثانوية، من خلال معايير ومؤشرات الأداء المعروفة التي يطبقها مركز القياس والتقويم. أما المدرسة الأسوأ فكانت في منطقة الجوف شمال المملكة. التقرير الصحافي تطرق للتباين الكبير في البيئة التعليمية بين المدرستين، فالأولى في مدينة الخبر، تملكها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، لديها النظام التعليمي الصارم نفسه الذي تطبقه الجامعة، والبيئة التعليمية المحفزة كذلك، واتخذت المدرسة اسم «الجامعة» للإيحاء لطلبتها بأنها المدرسة التي ستقدم لهم في المستقبل القريب مقعدًا في الجامعة الرائدة في علوم الهندسة والإدارة. وبالعكس تمامًا ظهر مقياس المدرسة الأسوأ، عدد طلبة مرتفع بالنسبة لعدد المعلمين، وغياب عوامل التحفيز، ومشكلات الطلبة النفسية والاجتماعية المهملة، كل ذلك انعكس على مستوى أداء اختبار القدرات.
كل ما سبق مفهوم، فمن يزرع يحصد، لكن دعونا نفكر بطريقة مختلفة أمام هذا العرض المثير للمعلومات. لنفترض أننا استقطبنا 15 طالبًا من الصف الأول الثانوي من المدرسة التي تذيلت القائمة، وقدمنا لهم منحة للدراسة في مدرسة «الجامعة» بالخبر، ثم أرسلنا العدد نفسه من طلبة مدرسة الخبر المتفوقين إلى الجوف.. ما النتيجة المتوقعة بعد ثلاث سنوات؟
القاعدة العامة كما يقول أهلنا في السعودية «الحي يحييك»، والقوي يعضدك ليشدك معه للأعلى، وتجارب المحاكاة في مجالات مختلفة وعلى مستوى العالم أثبتت أن للنجاح والفشل، والتفوق والبلادة، والنشاط والكسل، والإقدام والتردد، كلها لها ما يشبه جسر الانتقال، مثل العدوى، تقفز من شخص لآخر. وإن كانت هذه القاعدة العامة مقبولة، فسنتوقع أن الطلبة الكسولين حينما انخرطوا في المدرسة المثالية تحسن مستواهم الدراسي، واستقام سلوكهم، وتغيرت نظرتهم إيجابًا حيال أمور كثيرة في حياتهم ومن حولهم. والعكس صحيح، فالمتفوقون في المدرسة السيئة لما غيّبت بيئتهم التعليمية المثالية انتكسوا، وأصبحوا أكثر عزوفًا عن القراءة والتحصيل، كما تدهورت حالتهم النفسية وبعضهم هجر مقعده الدراسي.
من الناحية النظرية قد تكون هذه التوقعات مقبولة، لكن في الواقع قد لا تظهر النتيجة بهذا الشكل القطعي. ولهذا السبب حيك كثير من النظريات والاستراتيجيات حول نظم التعليم الأصلح، بناء على معايير بعضها متفق عليه وبعضها مختلف عليه حتى اليوم، لكنه اختلاف بنّاء يثري الخيارات ويغذي الخبرة.
لدينا في علم الوراثة ما يسمى «تعبير الجينات الوراثية عن نفسها»، وللتوضيح بشكل مبسط، فالطالب الذكي مثلاً لديه جين مسؤول عن صفة الذكاء، وهذا الجين لا يمكن نزعه منه، وسيظل معه طيلة الحياة وقد يورثه لأبنائه، ولكن جين الذكاء هذا قد يكون موجودًا فعلاً ولكنه معطل، حيث لم يتم تشغيله أو تحفيزه، وبالتالي يصبح وجوده كعدمه، أما عدم امتلاك الفرد هذا الجين من الأساس فيعني القضاء تمامًا على فرصته في أن يكون ذكيًا، مهما كانت عوامل التحفيز متوفرة. هذه معلومة علمية وليست افتراضًا. والخلاصة أننا نمتلك، من حيث ندري أو لا ندري، بنية وراثية تحتية لمقومات التفوق والإبداع والنجاح وغيرها، تحركها العوامل البيئية، وتتحكم في ظهورها بشكل كبير، لكن إن كان هذا المكون البنيوي غائبًا فعبثًا نحاول هدر المال والجهد.
هناك مسؤولية على إدارات التعليم لا شك في ذلك، لكن ليس من الإنصاف وضع اللوم كاملاً على مدرسة تعيش وسط بيئة مجتمعية لا تؤمن بقيمة التعليم الجيد ولا تتقبل مهنة المستشار النفسي والاجتماعي، وفي هذه الحالة، إن كانت المدرسة قد قامت بكل جهودها لتقديم بيئة تعليمية جيدة - وهذا ما لم تفعله المدرسة المذكورة - فإنها ستواجه تأثيرًا معاكسًا من المجتمع يقلل من النتائج التي تأملها.
نتائج مركز التقويم والقياس لم تضع مدرسة واحدة أهلية في القائمة السيئة، أي أن كل المدارس ذات المستوى المتدني هي مدارس حكومية، فهل أصبح دور المدرسة الحكومية تقديم الحد الأدنى من التعليم، وتركيز دورها في المدن الصغيرة والهجر لمحو الأميّة؟ لا يمكن إنفاق مئات الملايين سنويًا من أجل هذا الهدف.
هناك رأي يقول: «وليكن.. فكل إنسان ابن بيئته، لنترك طلبة الخبر مكانهم وطلبة الجوف مكانهم، ونأخذ حصادنا من المدرسة الجيدة، بأن نعينهم على استكمال دراستهم في تخصصات علمية تحتاجها الدولة، وتوظيفهم في قطاعات مهمة، أما المدرسة السيئة فيكفينا منها أنها تعلم طلبتها مبادئ القراءة والكتابة». هذا الرأي اختار أسهل الطرق، وهو اللاعمل، لكن مشكلته في أمرين، الأول أن إبقاء المدارس السيئة في بعض المناطق على ما هي عليه رغم تكرار نتائج قياسها مناقض لأبسط قواعد العدالة الاجتماعية التي تفترض حصول كل المواطنين على فرص متكافئة. الأمر الآخر، أن هذا الرأي لم يعد له مكان مع استراتيجية السعودية «2030»، التي توجب العدالة في توزيع المسؤوليات، وبالتالي الحقوق، وعلى وزارة التعليم العبء الأكبر في تحقيق هذه الرؤية.
من وجهة نظري أن أهم ما يمكن أن يستفاد من عرض نتائج مركز التقويم والقياس نقطتان: الأولى أن الحصول على طالب متفوق أو موهوب يحتاج إلى كثير من العمل والتقصي، والنقطة الثانية هي أهمية فرض عنصر التنافسية بين المدارس، وإشراك المجتمع في معركة التفوق والأداء. التنافس بين المناطق وإدارات تعليم المناطق في تحقيق مراكز متقدمة لتحصيل أبنائها سيكون المحفز على العمل ويستدعي القلق من الفشل، وعلى هذا المسار، أقترح إنشاء مسابقة سنوية تتوج بجائزة وطنية للإدارة التعليمية الأفضل، والمدرسة الأفضل، والمعلم الأفضل، يقدمها خادم الحرمين الشريفين للفائزين، وهذه هي البيئة المجتمعية التحفيزية في إطارها الواسع.

[email protected]