بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

التوحد: حالة فرد.. وأزمة أمة

الثلاثاء الأخير من شهر أبريل (نيسان) الماضي، شاهدت الحلقة السادسة والأخيرة من مسلسل عرضته قناة «بي بي سي1» حمل عنوان (The A Word). المقصود بحرف (A) هو كلمة (Autism) أي التوّحد، وهي - كما تعرفون - حالة نفسانية يولد بها بعض الأطفال، لكنها تتضح لاحقًا خلال سنوات الطفولة، وقد يتأخر اكتشافها حتى مرحلة المراهقة. ولأني أعرف، كما غيري، عن معاناة عشرات آلاف العائلات على امتداد العالم العربي في التعامل مع حالة التوّحد بين فرد، وربما أكثر، داخل الأسرة، فقد شدتني حلقات المسلسل، وهو دراما عائلية من 6 حلقات، بدءًا بأول مشاهد أولى الحلقات: الأب بول يقذف بالصبي «جو» ذي الخمس سنوات إلى الهواء باتجاه السقف، موجهًا له السؤال: مَنْ هو العبقري؟ فيجيب جو، فيما تتلقف ذراعا والده الجسد الغض قبل أن يرتطم بأرض الغرفة: إنه أنا، جو عبقري.
برع ماكس فينتو في تقمص دور جو. يصعب تخيّل ألا يتأثر أي شخص بمشاهد تعبير طفل عن العيش في خيال يحقق له رغبة الاختلاء بذاته، فيصم أذنيه عما يدور حوله ويفضل الاكتفاء بسماع الموسيقى. ثم إن تأثر المشاهد يتفاعل مع انعكاس حالة جو على والديه وبقية أفراد أسرته، فلا يجدون أمامهم سوى الامتثال لرغبة طفلهم، فيتواصلون معه بترديد أغانً يفضلها، لكن ذلك كله لا يمر بلا أزمات تكاد تعصف بكامل كيان الأسرة.
تلك، باختزال شديد، حبكة المسلسل. ولعلها تصلح للتذكير بحالات «توحد» تعانيها أمم بأكملها. شرح ذلك يطول. لكن، باختصار قد يصيب وقد يخطئ، يمكن القول إن الإصرار على العيش في خيال يفترض أن الدار لا تزال على حالها، وأن الدنيا لم تتغير، ولم تتبدل مفاهيمها، يشبه تصميم الطفل جو على أن يصم سمعه إزاء ما يحصل حوله. أليس بين أمم الأرض أناس يصرون على الاكتفاء بما يرضي تخيل ما يرون أنه وحده يكفي لاستعادة مجد زمان مضى؟ بلى، يحصل ذلك رغم أن مقومات ذلك الماضي لم تعد قائمة، وشروطه ما عادت متوفرة، ثم إن مسيرة الإنسان محكومة بسنن التقدم نحو الأفضل، هكذا بدأت، وهكذا تتواصل.
لم أكن بصدد العودة إلى مقالة تنطلق من موضوع بريطاني. فقد تكرّم صديق ذو خبرة صحافية مشهود لها، فأدلى بوجهة نظر فيما قرأ لي أربعاء الأسبوع الماضي، وأخبرني أنه يتمنى ألا أحصر اهتمامي بمواضيع بريطانية، لافتًا النظر إلى أن السواد الأعظم من قراء «الشرق الأوسط» وقارئاتها، مواطنون عرب ينتشرون عبر عالم عربي، تشهد معظم أنحائه تطورات أكثر أهمية لجمهور الصحيفة مما يجري بالمملكة المتحدة. ذاك قول حق أُريد به تطبيق منهج مِهني صحيح، ولم يرد صاحبه تزويق أي باطل. ويدرك كل ذي بصيرة كم من منعرج خطير في تاريخ البشرية عمومًا، شهد توظيف صريح الحق بقصد ترويج زيف الباطل. جرى ذلك منذ أعرق الأزمان، وصولاً إلى الأمسين، القريب والبعيد، وخصوصًا كلما تعلق الأمر بإخماد حرائق فتن عصفت بالعرب والمسلمين، وها نحن نشهد استنساخ بعضٍ منها، فيُعاد إنتاج المشاهد ذاتها، وإن اختلفت الأسماء وتبدلت راياتها، ولم تفتقر لمن يكتب شعاراتها من جديد بما يناسب متطلبات ما جدَّ على الأرض. المؤلم أن يُسهم مسلمون في تنفيذ ما يريده آخرون، حتى إذا تطلب الأمر صب الوقود على نار تتقد في نفوس أصابها عمى ثأر أمس مضى، عن السعي لأجل غد أفضل. إنْ لم يكن هذا السلوك نوعًا من أزمة «توحد» تواجه أمةً بأكملها، أو جموعًا من بينها، فماذا يكون؟ أما عن حالة جو الفرد، فأختم بأن أتمنى لكل أسرة تعاني ما يماثلها الصبر والتوفيق في معالجتها، مع الأمل أن تواصل مؤسسات رعاية حالة التوحد بين أطفال العالم العربي تطوير إمكاناتها، والارتقاء بمستويات أدائها، على نحو يوفر الدعم المطلوب لكل العائلات التي تمر بمثل تلك الحالة.