حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

إنجاز حضاري!

هل قرأت كتاب «البخلاء» للجاحظ؟ أو تمعنت في كتاب «الأغاني» للأصفهاني؟ سألت أحد زملاء ابني هذا السؤال ونظر إليّ بذهول شديد وكأني أحدثه عن شخصيات من التراث الصيني أو أسأله عن الأدب البولندي وعلاقته بالسينما الأوغندية! نعم هكذا كانت ردة الفعل على وجه الشاب، ومع الحديث معه تبين لي أن معدل «القراءة» في حياته لم يقترب من الأدب والتراث القديم ولا حتى الجديد، ولكنه يركز على «سطور سريعة» يحصل فيها على مبتغاه بشكل مؤثر وفعال، وعلى عجالة يؤدي بها الغرض المطلوب وينجز المأمول في كبسولة مركزة.
ولكني تساءلت في نفسي هل ما يأتيه بهذه الطريقة هو نوع من الخبر المؤكد أم نوع من «النميمة المنمقة»؟ فالمتابع للمشهد الإعلامي والثقافي في العالم العربي بصورة عامة يجد أن جله يتركز في نقل الأخبار والقيل والقال وليس في نقل المعرفة المركزة والتعمق في موضوع بعينه بعمق ودقة، وكل ذلك بأسلوب خفيف وسطحي وساذج، والعلاقة المضطربة اليوم بين الشباب في العالم العربي والمعرفة عموما مسألة تدعو للقلق؛ لأنها إحدى وسائل قياس «جاهزية» المتقدم على الوظيفة في سوق عمل منافس ومليء بالتحديات والتعقيدات الهائلة والمتتالية.
فاليوم الشركات الكبرى، وخصوصًا المتعددة الجنسية، تبحث في موظفيها عمن لديهم «أفق عالمي» وهذا لن يتأتى إلا بالاطلاع المعرفي والثقافي على علوم الأمم الأخرى وثقافاتها والانفتاح الإيجابي عليها، وإدراك أن هناك كمًا عظيمًا من الحكم والمعرفة معروفًا فيما هو خارج الحدود الجغرافية التقليدية، وهذا بحد ذاته أهم إنجاز. والمجتمعات «الخائفة» و«الضعيفة» و«الهشة» هي التي تخشى من الانفتاح على ثقافات الآخرين، والإقدام على الاطلاع عليها والاستفادة منها والتعامل معها.
الاطلاع على ثقافات الأمم يوسع المدارك ويمنح ثقة مكتسبة بالنفس؛ لأن ذلك يولد قدرًا أعمق وأهم على التعامل مع الآخرين بشكل أنيق وسلس ومؤثر وفعّال. إنه التعارف بين الناس الذي أمرت به الأديان السماوية بشكل مبسط ولكن بأسلوب عصري بدلاً من التشكيك والتشديد، والأمر بالكبت والانغلاق وحصار النفس من التعامل مع الغير.
دول العالم الجديد كأميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والبرازيل وسنغافورة وهونغ كونغ بنت أمجادها على الانفتاح على الآخر، بل هي كانت نقطة جذب عظيمة لكل ما هو مرغوب ومطلوب من كل بقاع العالم.. إنها وسيلة الجذب الأشد تأثيرًا.
صهر العقول واندماج الحضارات وزواج الثقافات يشكل مجتمعًا منتجًا راقيًا مقاومًا بطبيعته للعنصرية والعزلة والتمييز، وهذه أولى ثمرات الانفتاح على الآخر وثقافته، وهذا في حد ذاته إنجاز إنساني وحضاري لا يقيّم بمال.