نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

الخيار الأردني؟!

أقترح استبدال هذا المصطلح المستهلك وغير الموضوعي بعنوان آخر قد يكون أكثر دقة وضرورة، وهو العلاقة الأردنية - الفلسطينية حاضرًا ومستقبلاً.
ومفيد هنا أن نذكّر ببديهية منطقية، وهي أن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، وأن ما كان قبل إعلان المغفور له الملك حسين فك الارتباط مع الضفة لن يعود ثانية، فقد مر وقت طويل على الارتباط وفك الارتباط، وخلال هذا الوقت جرت متغيرات عميقة في المعالجات السياسية، ونشأت معادلات محلية وإقليمية ودولية تجعل كل ساكني الشرق الأوسط، ومن ضمنهم الفلسطينيون والأردنيون، يفكرون بصورة جديدة، أي مختلفة تمامًا عمّا كان، ذلك أن الحرب العالمية الجارية الآن في داخله، وعلى حدود معظم دوله، لا تزال في أوجها، ولا أحد من اللاعبين الكبار والصغار، المقتدرين والمغلوبين على أمرهم، يعرف مصيره، ما إذا أسفرت هذه الحرب عن تقاسم يشبه ذلك التقاسم الذي وقع قبل مائة عام من الآن. وفي هذه الحالة، حيث الأردن في عين العاصفة، مع أنه الأكثر أمانًا في محيطه وجواره، وفلسطين صاحبة المصير الأكثر غموضًا في هذه المرحلة، لا يناسبهما مجرد التفكير في صيغ وحدوية أو حتى انفصالية، بل الأجدى والأكثر ضرورة أن تدار العلاقة المركبة بين الجانبين بأقصى درجات الحذر والحسابات الدقيقة للمصالح الآنية التي يمكن أن تشكل أساسًا للعلاقات المستقبلية وكيف تكون.
إن الذي دفعني للحديث عن هذا الأمر في هذا الظرف بالذات، ظهور بعض الأصوات المتذمرة التي دفعها تدهور الأوضاع السياسية في الضفة، وانعدام آفاق التحرك الفعال، نحو حلٍ يفرز دولة مستقلة، أو حتى شبه مستقلة، وكأن العلاقات بين الكيانات تمليها انفعالات وتقديرات آنية، أو كما لو أنها مجموعة خيارات نأخذ منها ما يريحنا في اللحظة، ونتجنب منها ما لا يريح.
أصوات فلسطينية تحدثت في هذا الأمر، وبالإمكان تفهم الدوافع في زمن الإغلاق والتدهور، وهنالك أصوات إسرائيلية تحدثت في هذا الأمر كما لو أن الضفة طفلٌ ضائع يفتش العالم عن أهله، وحين يصدر صوت بهذا الاتجاه من داخل إسرائيل، فالأمر غالبًا ما يكون أكثر جدية حين يصدر عن الجانب الفلسطيني.
لقد اختار المغفور له الملك حسين بن طلال صيغة تصلح لأن توصف بالاستراتيجية والتاريخية، فبقدر ما كانت الضفة عزيزة على قلبه وملكه، فرض الواقع الجديد رؤية جديدة لعلاقة الأردن وفلسطين، فقد منح الملك منظمة التحرير قبوله لتمثيلها المنفرد للفلسطينيين، بما في ذلك الضفة الغربية، ومارس سياسة حاسمة في هذا الاتجاه، وأعلن أن فك الارتباط الذي أملته معادلة فلسطينية وعربية، وعلى نحو ما دولية، لن يلغي مسؤوليات الأردن تجاه فلسطين والفلسطينيين، وفي أكثر من لقاء مع الفلسطينيين، أكد الحسين على المعادلة الجديدة، فها هو الأردن بكل ما يملك سند للفلسطينيين في سعيهم لإقامة دولتهم المستقلة، وقد ترجم ذلك فعلاً بافتتاح أول سفارة لفلسطين في عمان، وأصدر أوامره الصريحة للحكومة وللأجهزة الأردنية بتقديم كل ما يحتاجه الفلسطينيون من أجل إنجاح تجربتهم وهي في مهدها، والمقصود هنا مرحلة أوسلو.
وهذا الأساس يمكن أن يبنى عليه الكثير في تنسيق وتكامل العلاقة بين الشعبين المتداخلين اللذين صنعا أقوى وحدة في التاريخ العربي، وهذان الشعبان يدركان بالتجربة أن القفز المتسرع وحرق المراحل في التعاطي مع الصيغ المستقبلية سيكون ضرره أكبر بكثير من نفعه، والحكمة كل الحكمة في القول إن العلاقات المستقبلية لا تحدد ولا تفرض سلفًا، فلكل ظرف وزمن مؤثراته التي لا يصح مصادرتها برؤى تفرضها مؤثرات آنية وانفعالات عابرة.
العلاقة الأردنية - الفلسطينية ليست علاقة بين بلدين يتمتع كل منهما باستقلالية تكاد تكون مطلقة عن الآخر، بل إنها علاقة صاغها وحماها الاندماج المجتمعي والمصلحي بين الشعبين، وهذا يحتم خدمة هذا الكنز بأرقى الصيغ وأسلم الحسابات، وهذا أمر بيد الطرفين أن يؤدياه بكفاءة بعيدًا عن استحضار عناوين ومصطلحات، وحتى خيارات، لا جدوى منها في الوقت الحاضر إلا استنبات خلافات، الأردنيون والفلسطينيون في غنى عنها، ولا فائدة من إقحامها على الشعبين اللذين يجتاز كلٌ منهما قطوعًا مؤثرًا في حاضره ومستقبله.