إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

لقاء مع شلش

في معرض عربي للكتاب، ابتسم ابتسامة واسعة وقدّم نفسه: «أنا فلان الفلاني». لم يكن الاسم معروفًا لي، لكنه أضاف أنني سبق أن كتبت عنه في هذه الجريدة. هل توّهم في الشكل؟ رد: لا، أنت إنعام وأنا شلش.
شلش العراقي؟ معقولة؟ طلع أمامي مثل الجنّي من القمقم بعد أن قيل إنه اختفى من على وجه الأرض. هاجر وهرب أو اقتصّ منه الفاسدون الذين فضحهم بمقالاته اللاذعة. كانوا يتمنون أن يقصوا لسانه أو يقطعوا أنامله التي تكتب على الشاشة. أهذا هو حقًا أم أن محدثي يستغفلني؟ لمح الشكّ في عيني فأعطاني علامة من رسالة قديمة بيننا، قبل أن يقطع عنوانه الإلكتروني وتغيب عن المواقع مقالات شلش العراقي. أشهر اسم مستعار تداوله العراقيون وكان موضوع أحاديثهم على مدى سنتين، بين 2005 و2006. من الذي يتخفى وراء هذا التوقيع؟
اكتشف القراء موهبة فذّة في الكتابة السياسية الخفيفة. لا يخاف من «أكبر عمامة». يكتب بالفصحى عما يجري في البلد ثم ينزلق إلى العامية ليختار أكثر مفرداتها أصالة ودلالة. قلم فريد في سخريته، يحكي عن مجتمع يصلي ويثمل، يختار مفرداته من لغة جديدة سكنت الشوارع في سنوات الشحّ والحصار وتعززت مع الاحتلال. جاء الأميركي ومعه أنصاره وظواهره العجيبة فابتدع العراقيون أساليبهم في توصيفهم. إنها عبقرية الشعب في «العَرضحال» وفي الضحك الذي يصدّ الخوف. ولعل خشيته من افتضاح شخصيته أجبرته على التوقف. وهو يقول عن شلش إنه كان مرحلة محددة بزمنها ثم غاب وشيّعه بعد أن كاد يودي به إلى الموت. والمهم أنه منح حنجرته لكل الصامتين. أما اليوم فالحناجر كثيرة.
بدا لي شلش الحقيقي أكبر من شلش الإلكتروني. فقد كان مجندًا في سلاح المشاة أيام حرب إيران وبعدها حرب الكويت. يحكي عن طائرة من نوع «بي 52»، كانت تحلق في سماء حفر الباطن في السابعة من مساء كل يوم وتفرش الأرض بـ«القصف السجّادي». يهتزّ الكون فوق رؤوس الجنود في الملاجئ. وعندما تفرغ حمولتها وتمضي، يخرجون ليتناولوا عشاءهم. جبنة معلبة ورغيف الدقيق الأسمر، «صمّون الجيش». ثم غابت الطائرة، ذات يوم، عن موعدها. وبقي مع رفاقه دون طعام حتى الصباح. خافوا أن تأتي الطائرة وتقطع عشاءهم. يقول إن علاقتهم بها صارت موقوتة، مثل كلب بافلوف. تقصف فيأكلون أو تغيب فيصومون. يجد شلش متعة مريرة في رواية تلك التفاصيل. يعرف أن حصة المجند من الثلج، أيام القيظ، كانت نصف النصف من ربع القالب. لكنه لم يورد شيئًا من تجربته العسكرية في مقالاته وأوهم القراء بأنه ابن السبعينات. ولمزيد من التمويه كان يدسّ بعض الأخطاء الإملائية في كتاباته، وهو الخبير بأسرار اللغة.
لا أحد يعرف كيف كان شلش يرسل نصوصه إلى «كتابات»، الموقع الإلكتروني العراقي المفتوح. لكنه أخبر القراء بأنه من أبناء «مدينة الثورة»، أكبر تجمع سكاني بأطراف بغداد. هكذا كان اسمها أيام عبد الكريم قاسم. ثم صارت مدينة صدام أيام صدام ومدينة الصدر أيام الصدر. وقد أحبه القراء وصارت له شهرة عالمية. واتصل به محرر من مجلة «تايم» الأميركية يطلب لقاءه في عمّان. لكنه واصل الاعتصام بالعتمة. وفي خريف 2005 كتبت عنه في «الشرق الأوسط» أن دعاباته تنطلق من بغداد لتصل إلى سيدني وكاليفورنيا ودبي واستوكهولم وأوكلاند ودمشق، وكل البقاع التي وصلتها هجراتنا. صار ظاهرة في الفضاء العراقي، وزعم بعضهم أنهم يعرفون شلش ويتكتمون على اسمه. وراهن كثيرون على أنه اسم مستعار لهذا الصحافي أو ذاك. أما هو فقد عاش في السر متمتعًا بشهرة لا يذوق ثمارها، متلذّذًا بالسخرية من الحكومة والبرلمان ومن تسمية المفاسد بأسمائها.
اختفى شلش الأصلي فظهر عشرون شلشًا مزيفًا. مقالات مصنوعة في تايوان فشل أصحابها في تقليده. ثم غطس عشر سنوات وبعدها ظهر أمامي دون أن تتغير أحوال البلد. «على حطّة يدك». ووعود السياسيين هي هي، مثلما وصفها في أحد مقالاته: «الشهداء لهم الجنّة. والمعوقون جزاهم الله خير جزاء. وسنوزّع عليهم عربانات يابانية. أما الأرامل واليتامى فسنبني لهم مجمعات سكنية في طويريج». وطويريج، لمن لا يعرف، هي بلدة رئيس الوزراء العراقي السابق اللاحق.