ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

«وثائق بنما» تكشف صحافتنا أيضًا

لشدة انغماسنا في الانقسامات الحاصلة نكاد ننسى ما هو الجوهر الحقيقي لمهنة الصحافة. فنحن نعيش على وقع أزمات وظروف قاهرة تفقدنا أحيانًا الإحساس بذاك الشغف الذي تبثه فينا مهنتنا، فلا بأس إذن ببعض الماء البارد على رؤوسنا كي تعود بعض البديهيات. على الأقل هذا ما شعرتُ به خلال متابعتي لتفاصيل قضية «وثائق بنما».
البحث عن الحقيقة..
كم هو جميل هذا الشعار قبل أن نمعن فيه استباحة وتشويهًا وابتذالاً، فنقع في أفخاخ الحسابات السياسية والطائفية والمالية وننتهك الصدقية المهنية. «وثائق بنما» أنعشت ما اعتقدنا أنه ذوى وانقضى، أعني أن هناك مهنة متعبة لها مخاطرها، لكنها حين تنجز ما صُممت من أجله، فهي تقدم للرأي العام خدمة جليلة، وتساعد في بناء مجتمعات أكثر معرفة وانتباهًا ومسؤولية. وفي حالة «وثائق بنما» التي تعد الأهم حتى اليوم في تاريخ الصحافة الاستقصائية، فهي كشفت لنا حجم الفساد وتهريب الأموال في العالم بأسره، وطبعًا في العالم العربي، وكم أن هذا الفساد متجذر، بحيث يطال شخصيات سياسية وعامة، بل يشمل شخصيات رياضية وثقافية، ويجمع شركاء يدعون الخصومة.
هناك 400 صحافي من مختلف دول العالم أعادوا الاعتبار إلى المهنة، وردونا إلى جوهر وجودها. المخيب بالنسبة لنا هو أنه ومن بين هؤلاء الـ400 هناك 6 صحافيين عرب فقط، علمًا بأن كثيرًا من كشوفات تلك الوثائق تعنينا، وتكشفنا كدول ومجتمعات في هذا العالم العربي. وهنا يظهر جوهر أزمتنا، فنحن في بلادنا نعيش عصر احتضار الإعلام، وانفجار أزماته. في لبنان مثلا تكرر إشهار مؤسسات صحافية لنيتها بالإقفال، فيما أقفلت فعلاً عدة مكاتب إعلامية لأسباب سياسية وأمنية. أما من بقي، فهو يتعثر بأزمات مالية وسياسية أو واقع في فخ الاستقطاب السياسي والمذهبي الحاصل. وهذا الحال لا يقتصر على لبنان، بل بات وضعًا عامًا يشكو منه أهل المهنة في أكثر من بقعة عربية، وتم الإعلان عنه تكرارًا. طبعًا، من نافلة القول التذكير بما يتعرض له صحافيون من سجن وترهيب وابتزاز لدى محاولتهم تحدي السلطات بشكل مهني.
وسط هذا المشهد القاتم أتت «وثائق بنما» لتقول لنا إن دور الصحافة لم ينتهِ، بل هو أكثر أهمية وحيوية مما نعتقد، وإنه الآن يأخذ مسارات جديدة قوامها تعاون عالمي وشبكة من أهل المهنة قدمت لنا درسًا سنواصل استخلاص عبره لسنوات.
تطرح علينا هذه التجربة مرة جديدة أسئلة حقيقية تتعلق بمدى قدرتنا على الحصول على المعلومات من جهة، والقدرة على نشرها من جهة ثانية، والثانية معضلة لا تقل صعوبة عن الأولى خصوصًا مع ضعف القوانين، ووقوع كثير من الصحافيين في فخ التبعية السياسية الكاملة، وكل تلك معوقات تحول دون إنجاز عمل صحافي مشابه لما أنجزه صحافيو «وثائق بنما».
صحيح أن مجالات المشاغبة لا تزال متاحة، وهي تحصل بشكل فردي ومتفرق، إلا أن مساحات العمل الجدي لفضح الفساد لا تزال قاصرة. اليوم نحن بحاجة للفهم وللاستلهام من هذه التجربة الاستثنائية، ومعنى ذاك العمل الجماعي العابر للجنسيات والقارات.

diana@ asharqalawsat.com