خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

غضبة شاعر

محمد مهدي الجواهري من الشعراء الذين تزدحم حياتهم وأشعارهم بالتناقضات. إنه رجل ضخم واحتوت ضخامته على التناقضات فيما احتوت عليه. ولكن من الواضح أنه رغم كل ذلك فقلما حاد عن الخط التقدمي، الذي رسمه لنفسه وهو السعي للتطوير والتجديد والعصرنة وبصورة خاصة تحرر المرأة ومساواتها. تجلى ذلك حتى في قصيدته التي دافع فيها عن الميني جوب (التنورة القصيرة). وكان قد اتخذ هذا الموقف منذ أيامه الأولى، عندما اشتغل موظفًا صغيرًا في البلاط الملكي. قررت وزارة المعارف عام 1929 فتح أول مدرسة للبنات في مدينة النجف. وشن رجال الدين حملة ضارية هناك قادها الشيخ كاظم اليزدي لمنع الوزارة من تعليم البنات. تصدى لهم أبو فرات بقصيدة طويلة نشرها بعنوان «الرجعيون»:
ستبقى طويلاً هذه الأزمات
إذا لم تقصّر عمرَها الصدمات
وتساءل القارئ وما هي الصدمات التي يقصدها الشاعر؟ لم يمضِ القراء طويلاً حتى اصطدموا ببيت يسوق فيه الجواهري أفظع الكلمات، ضد بعض مشايخ المدينة كما وجدهم في عصره. ما أن نشرت جريدة «العراق» القصيدة حتى ثارت ثائرة القوم ضد الصحيفة وصاحبها وشاعرها. وما أنا بمن يهوى الآن إيقاع هذه الصحيفة بمثل تلك الزوبعة، التي وقعت بها «العراق» في إعادة نشر ذلك البيت المقذع. ازداد الطين بلة عندما تصور القوم أن الملك فيصل الأول، الذي كان حريصًا على نشر التعليم بين البنات، قد حثّ الشاعر سرًا على كتابة تلك القصيدة.
اضطر الملك إلى استدعاء الشاعر وتأنيبه عليها. فقد تجاوز حده وحدود حريته في نشرها، وهو موظف في البلاط الملكي، ويعمل بصورة مباشرة مع الملك. اعتذر له الجواهري وقدم استقالته من وظيفته، بيد أن الملك رفض استقالته وتركه في منصبه.
لكن العلاقة بين الملك الحكيم وموظفه الشاب ظلت متعكرة، حتى أنهى الشاعر علاقته الرسمية ليتفرغ للصحافة. وكان أن بادر لنشر قصيدة عاطفية بث فيها لواعج شجونه، وعبّر فيها عن موقفه التحرري المتواصل، المتأرجح بين حبّ العراق إلى حد الهيام والغضب عليه وعلى مساوئه لحد الكره، فقال:
سكت حتى شكتني غر أشعاري
واليوم انطق حرًا غير مهذار
وقعت أنشودتي والحزن يملأها
مهابة ونياط القلب أوتاري
في ذمة الشعر ما ألقى وأعظمه
أني أغني لأصنام وأحجار
ولا شك أنها كانت غضبة ثائرة على التمسك بقيم عفّى عليها الزمن، ووقفت كعقبة أمام تحرر العراق، بل والعالم العربي عمومًا، وتقدمه ولحاقه بالعصر الحديث.