نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

الصدر وعروبة شيعة العراق

تتداخل معارك كثيرة في المعركة التي تتصدر أخبار بلاد الرافدين، ويطغى عليها حراك الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر.
يخوض الصدر أولاً معركة حاسمة لإنهاء «دعونة» الدولة العراقية، أي تحريرها من هيمنة حزب الدعوة، في الوزارات والمديريات العامة والهيئات والأمن والقضاء. وهي مساحات تعالجها ورقتا الإصلاح اللتان تقدم بهما الصدر لرئيس الوزراء حيدر العبادي ويضغط عليه للمضي بهما.
كما يخوض ثانيًا معركة شخصية ضد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بوصفه ممثل مسار «الدعونة»، وإلحاق العراق بالكامل في الركب الإيراني. كما يثأر من التهميش الذي مارسه المالكي بحقه في فترة حكمه الطويلة التي تخللها اصطدام دموي بين العامين 2006 و2008.
ويخوض الصدر ثالثًا معركة سياسية مضمرة في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق، في لحظة إفلاس فريق طهران السياسي (المالكي تحديدًا) وفي ظل تنامي حالة الرفض الشعبي لإيران، وفريقها السياسي، لا سيما في الأوساط الشيعية، كما أظهرت مظاهرات الصيف الفائت في النجف وكربلاء وغيرهما من الحواضر.
من في موقع الصدر يعرف أن أباه محمد صادق الصدر، دفع أثمانًا غير قليلة بسبب محاربة إيران له إلى حد الاعتقاد بأن إيران تقف وراء تصفيته لأسباب تتصل بالصراع على مرجعية الشيعة، هو الذي لطالما اتهم بأنه عميل لصدام بسبب تمسكه بالبقاء في العراق والموت فيه. وليس بغير دلالة أن لا تطرح قضية محمد صادق الصدر في أي من محاكمات صدام حسين وهو من هو بين علماء الشيعة!
وهنا واحدة من المفارقات الغريبة في تاريخ العراق الحديث، حيث إن مقتدى الصدر كان في أحضان إيران حين صفت حكومة المالكي ميليشياه «جيش المهدي»، وأجبرته على حلها، في حين أن الصدر اليوم يواجه المالكي علنًا وإيران ضمنًا تحت راية عروبة العراق.
في الواقع يبني الصدر زخم حراكه على ثلاثة معطيات؛ الأول زعامته الحاسمة في أوساط مؤيديه، وقدرته الاستثنائية على حشدهم والتحكم بمسارات حراكهم، كما ظهر في تظاهرات التيار الصدري الأخيرة في ساحة التحرير، كما في إدارته السلسة لدخوله المنطقة الخضراء منفردًا وإبقاء جماهيره خارجها على عكس ما كان يهدد باقتحام المنطقة الخضراء. ثانيًا صدوره، عن هوية عربية لا لبس فيها، بل بكونه العربي الأكثر أصالة داخل التنويع المرجعي والفقهي في النجف. ثالثًا بناؤه على السقوط المدوي لمشروعية الأحزاب الدينية والمذهبية داخل الدولة، وعلى تحالف عريض من المتضررين، لا سيما الشيعة، من سياسات المالكي المستمرة عبر الدولة العميقة التي بناها داخل المؤسسات العراقية!
اللافت أن الصدر نجح نجاحًا استثنائيًا في العبور بعمامته وبصفته الدينية، بحر الاستنفار المذهبي في العراق، مخاطبًا العراقيين كعراقيين، متجاوزًا الانقسام الحاد بين السنة والشيعة.
خطا الصدر خطوة بالغة الرمزية في إعادة ابتكار موقعه السياسي، كشخصية عراقية عربية شيعية، يوم ترضى، في خلال مؤتمر في النجف، على صحابة الرسول، معترفًا بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة من دون تمايز أو تمييز. وفي الموقف السياسي، خارج أفخاخ الخطاب العقائدي على أهميته، انحاز الصدر إلى حقوق العراقيين السنة في الأنبار عام 2013 في مواجهة حكومة المالكي متهمًا إياه بالديكتاتورية والبطش والتمييز المذهبي. وكان الصوت الشيعي الوحيد الذي وصف ميليشيات الحشد الشعبي بالميليشيات الوقحة، في حين أن «سرايا السلام» التي شكلها تشكل عامل اطمئنان في الحواضر السنية في العراق. كما سبق ذلك انحيازه لسنة الفلوجة في مواجهة الحصار الأميركي عام 2004، معززًا مكونات الشخصية الوطنية العراقية العابرة للاصطفاف المذهبي.
مع ذلك يبقى أن ظاهرة الصدر ظاهرة معقدة، إذ انخرط الرجل في المعارك المذهبية الدموية التي انفجرت في العراق بعد الإطاحة بصدام حسين، واستفاد من الحماية الإيرانية حين كان موضوعًا على لائحة التصفية الأميركية، وهو يخوض الآن معركة ضد الرصيد والتركة الإيرانيين في العراق!
كما تنقل بين زعيم الميليشيا والسياسي ليستقر مؤخرًا، في خانة «المرجعية» التي يحاول تأسيسها لنفسها، كضمير وطني لعموم العراقيين بعيدًا عن السياسة المباشرة التي اعتزلها، من دون أن يصطدم بالموقع الشبيه الذي تتخذه لنفسها مرجعية السيستاني في النجف. وهو دائمًا خليط بين جرعة شعبوية كبيرة ومناورات متحذلقة، وجرعة لا بأس بها من الرؤية الاستراتيجية لاستعادة العراق.
هذه الأمزجة المختلفة والطبقات الكثيرة التي تراكمت لتصنع تجربته حتى الآن، جعلت من مقتدى الصدر، على الرغم من عدم شهرته بالذكاء والفطنة، الجهة السياسية الأكثر حيوية في العراق، والأكثر تحررًا من قبضة الإيرانيين أو الأميركيين، بين أقرانه، والأقرب لاحتمال ولادة شيء جديد يستعيد به شيعة العراق عروبتهم.
طبعًا من المبكر الحكم عليه. لكنه بلا أدنى شك الجهة الأكثر إثارة في الوسط الشيعي العراقي. فآل الحكيم فقدوا البوصلة والهوية السياسية الواضحة منذ فشل مشروع الفيدرالية وعادوا بتعثر إلى مشروع الدولة المركزية. أما حزب الدعوة الذي أسسه عم الصدر، السيد محمد باقر الصدر، ثم خرج منه، فهو في حضيض المصداقية وذروة انهيار المشروعية، وتحوله إلى مجرد مطية لإيران. أما إياد علاوي فلم ينجح أكثر من كونه رمزية لمزاج علماني مدني في الوسط الشيعي يفتقر إلى التمثيل الشعبي الحقيقي. وتبقى الميليشيات الشيعية، وأعنفها ممن انشق عن التيار الصدري، كعصائب أهل الحق، فهي لا تحمل وعدًا للعراقيين إلا المزيد من الدم والدمار.