عندما نناقش مستقبل تنويع مصادر الدخل في السعودية علينا أن نحذر من التهاون مع سرعة التطورات التكنولوجية التي تهدد اقتصادنا، فقد تهاونا بالتطور السريع لتكنولوجيا استخراج البترول الصخري في أميركا حتى أغرق العالم بخمسة ملايين برميل يوميًا من البترول لم تكن توجد قبل خمس سنوات، فلم نستعد لدخولها الأسواق العالمية حتى فات الأوان.
والآن، ربما نواجه خطرا يفوق خطر البترول الصخري، وهو احتمال استغناء قطاع النقل في الدول الصناعية والصين عن السيارات الحارقة لمشتقات البترول، واستبدال سيارات كهربائية أرخص وأسرع من السيارات التقليدية بها بين 10 و15 سنة، فهل نحن مستعدون لهذا الاحتمال؟ وهل لدينا مخطط للتعامل معه؟
وفي مجال التنبؤ عن مستقبل التطور التكنولوجي، هناك قصص كثيرة علينا أن ندرسها ونعمل ما بوسعنا للتعلم منها، لكي نتفادى أخطاء غيرنا. وهنا سنسرد قصتين، الأولى لشركة «إيه تي آند تي» مع الهواتف الجوالة، وهي مثال لخطورة التهاون بسرعة التطور التكنولوجي.. والثانية لشركة التصوير «كوداك» التي أفلست سنة 2010، وهي مثال لأهمية التفكير «خارج الصندوق»، والاستثمار في مجالات لا علاقة لها بالصناعة التي بنيت عليها الشركة. ورغم أننا نتحدث هنا عن شركات وليس دولا، فإن القوانين الاقتصادية نفسها التي تنطبق على الشركات هي أيضًا تنطبق على الدول.
في بداية ظهور أول الجوالات في أميركا عام 1985، طلبت شركة «إيه تي آند تي»، وكانت وقتها أكبر شركة تليفونات في العالم، من شركة «ماكنزي» الاستشارية عمل دراسة عن احتمال الانتشار السريع للجوالات وخطورتها على سيطرة «إيه تي آند تي» على الخطوط الأرضية. وبعد دراسة متعمقة كان رد «ماكنزي» بأنه لا يوجد خطر على الخطوط الأرضية، لأنه خلال الـ15 سنة المقبلة، أي في سنة 2000، لن يزيد عدد الجوالات في أميركا على مليون وحدة.. والواقع أن الهواتف الجوالة الأميركية فقط في تلك السنة فاق عددها المائة مليون.
وبناء على هذه الدراسة، لم تستثمر «إيه تي آند تي» في التليفونات الجوالة إلا متأخرة فسبقتها شركات جديدة، وصغيرة أخذت حصة الأسد من سوق الجوالات في التسعينات، فأصبحت اليوم هذه الشركة العملاقة سابقًا من أصغر شركات الاتصال في أميركا. وبما أننا نتحدث عن الجوالات علينا أن نذكر شركة «نوكيا» التي حتى عام 2007 كانت تسيطر على 60 في المائة من سوق الهواتف الجوالة في العالم، لكنها فقدت هذه السوق كليًا خلال أشهر من ظهور الـ«آيفون» وغيرها من الجوالات الذكية.
وهناك أمثلة أخرى لسرعة التغير التكنولوجي التي استبعد أفضل الخبراء حدوثها، مما حدث فقط خلال العقد الأخير ولم نلق لها بالا، ولكنها قضت على وظائف ورزق ملايين الأشخاص حول العالم، وأنهت صناعة ازدهرت مائة سنة أو أكثر.
من منكم يذكر أفلام «كوداك» والصور الورقية التي كنا نحتفظ بها في بيوتنا داخل ألبومات قديمة مزخرفة؟ من يذكر كيف كنا نخرج هذه الألبومات من الدولاب فقط عندما يحضر إلى بيتنا أصدقاء أو أقارب بعد طول غيبة لنفتحها ونريهم صور الأبناء عندما كانوا صغارا أو إجازتنا الأخيرة؟ لقد انتهت هذه العادات بعد ظهور الجوالات الذكية المزودة بكاميرات قبل نحو عشر سنوات، فبدلا من الألبوم الورقي القديم اعتاد الناس بسرعة على عرض صور العائلة والإجازة على الأصدقاء باستخدام الجوال.. وهذا حدث حتى قبل «فيسبوك» و«واتساب».
وماذا حصل لشركة «كوداك» المسيطرة منذ الخمسينات من القرن الماضي على 90 في المائة من سوق الأفلام الفوتوغرافية وورق طباعة الصور؟ الجواب أن «كوداك» التي بدأت القرن الجديد في سنة 2000 بتحقيق ربح ملياري دولار صافية بعد الضرائب، انتهت بالإفلاس في عام 2010، بعد ثلاث سنوات من ظهور الـ«آيفون» ونمو المشتركين في «فيسبوك» إلى مئات الملايين.
فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ماذا كان بإمكان «كوداك» عمله أمام هذه الكارثة التجارية، وما الدروس التي يمكن لنا أن نتعلمها من تجربة «كوداك»؟ الجواب هو أولا أن إدارة «كوداك» لم تتجاهل تكنولوجيا التصوير الرقمية كما يعتقد البعض، بل دخلت فيها بقوة، فأنتجت وسوقت كاميرات رقمية في أوائل القرن الـ21 نافست في جودتها ورخص أسعارها أفضل الكاميرات الرقمية اليابانية. وثانيا، استمرت في صناعة وتسويق الورق الفوتوغرافي الذي اعتاد الناس على طباعة صورهم عليه، سواء كانت الكاميرا رقمية أو تقليدية، فظنوا بذلك أنهم سيستمرون في السيطرة على سوق التصوير الفوتوغرافي إلى الأبد. فكما قالت رئيسة «كوداك» في 2006 «نحن لا يهمنا ماركة الكاميرا الرقمية التي يصور الناس بها، سواء كانت من صنع (كوداك) أو غيرها، لأنهم في النهاية سيطبعون صورهم على ورق (كوداك) الفوتوغرافي».
وهنا تتضح كارثة «كوداك» التجارية، فتحطيم سوقهم لم يأت من منافسين جدد في مجال كاميرات التصوير، أمثال «سوني» و«سانيو» (ضع البترول الصخري الأميركي في هذه الخانة)، بل جاء من حيث لم يشعروا، لقد تبخرت سوق «كوداك» للورق الفوتوغرافي، لأن «فيسبوك» و«آيفون» أصبحا الطريقة المفضلة لتبادل الصور بين الأصدقاء والأقارب، فلم يبق حاجة إلى طبع الصور.
إذن علينا أن نكون حذرين، ولا نركز فقط على حرب أسعار لإضعاف إنتاج البترول الصخري الأميركي، فالخطر الحقيقي على سوق البترول قد لا تؤثر عليه سعر البترول إلى درجة كبيرة، والحل قد يكمن في إحداث تغيير جذري في سياسة استثمار عوائد البترول.. فكما كان بإمكان شركة «كوداك» إنقاذ نفسها لو أنها استثمرت عوائدها المالية في سنة 2006 في «فيسبوك» أو «آبل»، علينا أن نفكر بجدية في استثمار رؤوس أموال صناديق الدولة المختلفة في قطاعات صناعية وخدمية خارج المملكة لا علاقة لها بالبترول أو حتى منافسة له.
وهنا كما يقول المهندسون «لا داعي لإعادة اختراع العجلة»، فإذا نظرنا إلى صناديق الاستثمار السيادية النرويجية والإماراتية، وكلاها أسست قبل نحو أربعين سنة، سنجد أنها لم تنافس القطاع الخاص وتستثمر عائداتها في مجمعات تجارية وفنادق داخل أوطانها، إذ إن هذه الاستثمارات تصبح عرضة مثل غيرها من الشركات المحلية لتقلبات سوق النفط وأثره على الاقتصاد المحلي، لكنها استثمرت ودائعها التي تقدر بنحو 800 إلى 900 مليار دولار في آلاف الشركات والعقارات الموزعة على سبعين دولة حول العالم.
ومثالاً على ما أشرت إليه سابقًا عن التفكير «خارج الصندوق»، والاستثمار في مجالات لا علاقة لها بالصناعة التي بنيت عليها الدولة، شائعة لم تؤكد بأن جهاز أبوظبي للاستثمار على وشك الاستثمار في شركة «تيرا باور» المطورة لمفاعل نووي أقل تكلفة من المفاعلات التقليدية ويستعمل النفايات النووية وقودا، وقد تأسست هذه الشركة في 2009 ويرأس مجلس إدارتها مؤسس شركة «مايكروسوفت» بيل غيتس الذي استثمر فيها أكثر من مائتي مليون دولار. وتنوي «تيرا باور» بناء أول مفاعل تجريبي في 2017، وإذا صح هذا الخبر فسيكون جهاز أبوظبي شريكًا في هذه التكنولوجيا مع شركات يابانية وهندية وصينية استثمرت في هذه الشركة فقط خلال العام الماضي.
وإذا نجحت هذه التكنولوجيا النووية الجديدة ماذا سيكون أثرها على سوق البترول والغاز خلال عشر سنوات؟ هل فعلا ستنهي العهد الهيدروكربوني؟ وماذا سيكون مصير جميع الدول المصدرة للبترول؟ إنها أسئلة صعبة، لكن لا بد أن نواجهها ونعجل من تغيير سياستنا الاستثمارية لنلحق بالأمم التي لا تنام على إنجازات الماضي، بل تبدأ كل صباح بالنظر إلى منافسيها الاقتصاديين وتتعلم من نجاحاتهم وأخطائهم.
أخيرًا وليس آخرًا، ربما أفضل فكرة سمعتها هذه السنة هي فكرة بيع الدولة جزءا من قطاع البترول، واستثمار قيمة البيع في قطاعات صناعية أخرى داخل وخارج المملكة لتخفيف الاعتماد على البترول باعتباره مصدرا رئيسا لدخل الدولة.
* كاتب ومحلل اقتصادي
10:9 دقيقه
TT
هل سنعيد أخطاء من سبقونا أم نتعلم منها؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
