إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

وصفة «الفيدرالية» الروسية ـ الأميركية

في عهد جورج بوش الابن شاع وذاع وملأ الأسماع مصطلح «الشرق الأوسط الجديد». ويومذاك، تحديدًا عام 2006 كان من طرحه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. وتزامن هذا الطرح مع مطالعة لوران موراوييك الباحث الفرنسي اليميني حول شبه الجزيرة العربية، ونشر خريطة «تخيّلية» للفتنانت كولونيل الأميركي رالف بيترز لشرق أوسط ذي كيانات وحدود جديدة من باكستان إلى البحر المتوسط.
ذلك «الشرق الأوسط الكبير» استغلته القوى التي تعتبر نفسها طليعة «المقاومة» و«الممانعة» والتصدّي للمخطّطات الأميركية، وأخذت تستخدمه سلاحًا سياسيًا – وفي بعض الحالات، أمنيًا – في محاربة خصومها المحليين والإقليميين. لكن المفارقة هنا، أن هؤلاء الخصوم ما كانوا مستفيدين من الشكل المتداول – عن صواب أو خطأ – لهذا الترتيب الجيوسياسي الإقليمي. بل على العكس، كانت الدول العربية المعتدلة المتضرر الأكبر منه، بينما كانت إيران الرابح الأساسي، لا سيما، بعدما سلّمها الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إحدى أهم دول المنطقة وأغناها على طبق من فضة.
أكثر من هذا، كانت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الذريعة المُعلنة لـ«المحافظين الجدد»، الذين أداروا السياسة الأميركية في عهد بوش الابن، عندما اتخذوا قرار غزو العراق، مع أن من يذهب أبعد من ظاهر الأمور يجد ما يلي:
أولاً، أن مخطّط ضرب العراق وإطاحة صدام حسين سبق زمنيًا هجمات 11 سبتمبر، ولقد أشارت إلى ذلك صراحة وثيقة «المحافظين الجدد» لبنيامين نتنياهو عام 1996 تحت عنوان «قطع كامل: استراتيجية جديدة لحماية الدولة»
A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm.
ثانيًا، بعدما ترسّخ لسنوات كثيرة الانطباع أن تنظيم «القاعدة» يمثل التطرّف السنّي «الذي يتعذّر التحاور معه»، مقارنة مع «مرونة» التطرّف الشيعي ممثلاً بملالي طهران، الذين عقدوا صفقات كثيرة مع الغرب، تبيّن أن تنظيم «القاعدة» – بالذات من وثائق أسامة بن لادن وأيمن الظواهري – لم يعمل في تاريخه على محاربة ملالي طهران.. ولا هم كانوا ضده!
ثالثًا، على الرغم من لهجة «قتال التكفيريين» والتهجّم على عدد من مذاهب أهل السنّة والجماعة، ورميها بالتطرّف وتغذية الإرهاب راهنًا، فإن إيران – ومعها أدواتها في المنطقة – اصطنعت واحتضنت وموّلت ورعت، لسنوات كثيرة، زمرًا وشراذم سنّية متطرّفة في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها، وبعضها ما زال موجودًا وعلى ولائه لأسياده في طهران والضاحية الجنوبية لبيروت!
رابعًا، عندما تغيّر الخطّ السياسي الحزبي في البيت الأبيض اختارت إدارة باراك أوباما الليبرالية – المناوئة للمحافظين القدامى و«الجدد» – تجاهل معظم المعادلات الاستراتيجية السابقة في الشرق الأوسط، وانقلبت على كل تحالفات واشنطن الإقليمية، ولكن من دون الابتعاد فعليًا عن «سيناريو» التقسيم.. الذي انطوى عليه مفهوم «الشرق الأوسط الجديد» وخرائطه المتداولة أيام بوش الابن.
كثرة من الكتّاب والمحلّلين ناقشوا في الفترة الأخيرة اتجاه كل من واشنطن وموسكو نحو صيغة «فيدرالية» في سوريا بناءً على تصريحين؛ أحدهما كلام وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن «الخطة ب»، والثاني تطرّق نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف مباشرة إلى «جمهورية سورية فيدرالية». ومعلوم أن عملية «فَدرلة» العراق أضحت مسألة محسومة. من حيث المبدأ ليس هناك ما يعيب الخيار «الفيدرالي» كنظام سياسي لبلدان تعدّدية، بل هو الخيار الأمثل، بدليل أن بعض أرقى دول العالم وأقواها وأكبرها وأغناها دول «فيدرالية».
ثم إنه يندرج في خانة الإيجابيات، بلا شك، العمل على إعادة أي لُحمة لكيانات منطقتنا الممزّقة مع اقتراب الذكرى المئوية لنشوئها من ركام الولايات العثمانية القديمة، وقبلها الدول والكيانات التي سادت ثم بادت على أرض الشرق الأوسط منذ فجر التاريخ.. فكيف إذا جاء التمزيق بعد حروب أهلية ومجازر مذهبية كالتي نشاهدها اليوم؟
غير أن دون التقدّم نحو «الفيدرالية» المطروحة عدة عقبات لا يجوز إغفالها، أبرزها:
أولاً، هل لدى واشنطن وموسكو، حقًّا، تصوّر مشترك لكيانات «فيدرالية» قابلة للحياة في المستقبل المنظور؟ بل، إذا كان لدى الإدارة الأميركية الخبرة الكافية – نظريًا – لوضع لَبِنات «الفَدرلة» في المنطقة، فهل لدى القيادة الروسية الحالية – التي قمعت الشيشان وتتآمر اليوم على أوكرانيا – الرغبة أصلاً للتعامل مع حالات «فيدرالية» في منطقة لها تعقيدات الشرق الأوسط وحساسياتها؟
ثانيًا، هل تتمتع النُّخب السياسية والجماعات العرقية والدينية والمذهبية في العراق وسوريا، وأيضًا لبنان، بالنضج والوعي السياسيين الكافيين لخوض هذه التجربة ضمن كيانات يفترض أنها ستكون «ديمقراطية»... وعلى الأرجح هشّة، بعيدًا عن قمع «الدولة البوليسية» الذي وحّدها بالقوة؟
ثالثًا، تحتاج التجارب «الفيدرالية» كي تنجح لأن تستند إلى عامل الاقتناع بـ«مصالح مشتركة»، بقدر تبرير اللجوء إليها بحجج «المخاوف المشتركة». وإذا كانت المخاوف، بل والشكوك والأحقاد أيضًا، موجودة وبديهية... فهل تبلوَرت فعليًا رؤى لمصالح كفيلة بحماية الكيانات الجديدة والمحافظة عليها؟
رابعًا، في المنطقة ثلاثة كيانات غير عربية مؤثرة، فهل سيشملها تعميم تجربة «الفَدرلة» الموعودة؟ بكلام أكثر وضوحًا، هل سيأتي لاحقًا دور كل من تركيا وإيران.. فنرى كيانات كردية و«بكتاشية» وأحوازية عربية وبلوشية وتركمانية تقوم في البلدين الكبيرين؟ وكيف سيكون الحال بالنسبة إلى حسابات إسرائيل التي يدفع غُلاتها نحو مشروع «يهودية الدولة» الذي يُشرع عمليًا الأبواب من جديد على «الترانسفير»؟
خامسًا، مَن قال: إن العبث بخرائط كيانات منطقة «الهلال الخصيب» سيبقي المناطق الشرق أوسطية والشمال أفريقية المجاورة آمنة إلى ما لا نهاية؟ أليست الحالات المتطرّفة الشاذة المتبرقعة بـ«الإسلام السياسي» حالات عابرة للحدود كما نرى في مصر وليبيا وتونس والجزائر؟ ألا تعاني كيانات مثل ليبيا والجزائر من آفات مذهبية وأزمات جهوية يسهل على الحالات المتطرّفة استغلالها؟ وماذا عن جنوب شبه الجزيرة العربية ودور «القاعدة» هناك، ناهيك من مشاريع الفتن المذهبية التي أطلقتها إيران، وكادت تورق وتثمر لولا قرار التصدي لها بالقوة العسكرية؟
إن بلداننا مقبلة على تحديات وجودية، والخشية أن تكون قد تجاوزت حتى قدرات «الفيدرالية» على التغلب عليها.