خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الله يقطع اليد الأخرى

هناك مستشار بريطاني لكثير من الحكومات العربية ووزاراتها. وحدث أن التقى أحد سلاطين الجنوب بوزير المستعمرات البريطاني فقال له الوزير إن المستشار الحالي سيتقاعد وسيعينون مستشارًا جديدًا بدلاً منه. حاول أن يستأنس برأي السلطان فسأله عن رأيه فأجابه: أتمنى أن تعينوا لنا رجلاً بيد واحدة. تحير الوزير في الأمر وعما يقصده السلطان بذلك. يظهر أن السلطان تصور أن هناك مسؤولاً سارقًا عندهم قطعوا يده عقوبة على سرقاته. فيكون مناسبًا للعمل في العالم العربي.
في مقالتي السابقة «تلخيص التلخيص» لمحت لجنوح الغربيين للنظر لأي شيء من جوانب مختلفة. فهذا ما تعلموه من العقلانية العلمانية. لكل شيء جوانب مختلفة. وهو ما يؤدي للإيمان بالتعددية. حكوماتهم تقوم على الحكومة والمعارضة، وكذا الأمر في برلماناتهم. هكذا نجد أن البرلمان البريطاني مثلاً منشق بين حزب المحافظين وحزب العمال. هناك أطروحة ونقيضها دائمًا في تفكيرهم. هكذا اعتاد الإنجليز على الإدلاء برأي ثم بنقيضه. يطرحون الرأي ثم يستدركون فيقولون هذا من جانب ومن الجانب الآخر.. يعبرون عن ذلك بقولهم مجازًا: هذا على يد، وعلى اليد الأخرى on the other hand. فيطرحون الرأي الآخر.
نحن نميل للفردية. كل شيء عندنا له جانب واحد. ونتضايق من تعدد الآراء والجوانب المختلفة. نلاحظ حتى المتنورين والعقلانيين منا لا يتصورون وجهة نظر مختلفة تقتضي التفاعل معها ومراعاتها. فالازدواجية عيب شنيع عندنا. وعندما تغير رأيك وتطرح رأيًا آخر يتهمونك بأنك متلون. فالتلون والتطور عيب آخر. ولكن وزير المستعمرات البريطاني أدرك فيما بعد كنه طلب السلطان أن يرشح لهم مستشارًا بيد واحدة! كان يزهق من تكرر طروحات المستشار في كل شيء بعبارات «وعلى اليد الأخرى، كيت وكيت وكيت..»، فيقع السلطان في حيرة من أمره فلا يدري ماذا يفعل. هكذا أصبحت أمنيته أن يأتيه مستشار لا يملك غير يد واحدة وليس له يد أخرى! يبلبل بها رأي السلطان وينغص عليه راحته!
قد يفسر ذلك حقد «الوطنجية» ضد المستشارين الإنجليز. عبر عن هذا الكره الشاعر العراقي جعفر الشبيبي بقوله المشهور:
المستشار هو الذي شرب الطلى
فعلام يا هذا الوزير تعربد؟
كان بيد المستشار الإنجليزي «الصاحب» الحل والعقد في سائر الأمور. حاول أحد الوزراء في العراق إثبات وطنيته بتحدي المستشار في أي شيء. وراح المستشار يتضايق من كل هذه التحديات والاعتراضات. استغل مجيء النادل بالشاي في جلسة مع الوزير. فقال له: «هذا الشاي مو زين. ما فيه طعم. انت تسوي شاي زين حتى الصاحب يسويك وزير»! الحليم تكفيه الإشارة. فلم يتمالك الوزير غير أن يقدم استقالته في اليوم التالي، وينسحب كليًا من ميدان السياسة والوطنية.