سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الاعتذار من السرد

لا أتصفح الكتب قبل شرائها، خجلاً من أصحاب المكتبات الذين أكثرهم أصدقاء لي. وعندما أعود إلى البيت لأتصفح ما عدت به، أكتشف أحيانًا أن عليّ أن «أفحص» الكتب، وليس فقط أن أتصفّحها.
فقد يحدث مثلاً أن بعض المؤلفات أعلى بكثير من مستوى معرفتي، وأعمق بكثير من قدراتي على الفهم والاستيعاب. عندها، أشعر بالخجل من نفسي ومن القصور الفاضح، خصوصًا أن لا وسيلة للعثور على السادة المؤلفين للاعتذار منهم عن خطيئة الجهل. وآخر ما وقع لي أنني اشتريت كتابًا ضخمًا بعنوان: «فلسفة السرد»، فإذا مشكلتي تبدأ من السطر الأول في المقدمة؛ إذ يقول صاحبها:
«تأتي هذه الدراسة نتيجة ازدياد وعي الباحثين بأن الواحد لا يمكنه أن يبني صرحًا علميًا ولا حضاريًا، ذلك أن الإنسان وجد متعددًا ينضاف إلى المجموع المتكوِّن فيه، فالواحد يعكس التفرّد، وهي سمة ثيوقراطية دالة على روح السيطرة التي بات يمجُّها العقل المعاصر من جهة القيام بالبحث العلمي، حيث يتعزز الأخير في شكل مجموعات، أو فرق، بحيث يتجاوز الإنسان مُشكلة الأوحد العجيب إلى الجماعي الخلاق، وهي سمة تعضّد فكرة فناء الذات في الجماعة. كما في الاجتماع من اقتصاد في الجهد، وسرعة في الإنجاز، وحصافة في التخريج، لذلك، كانت مبادرة الشبكة المغاربية للفلسفة والإنسانيات أن تجمع الباحثين المتميزين ليكونوا لُبنة دفّاقة في تقديم المعرفة وتبسيطها بين أيدي قراء العربية». يعدنا المقدِّم بالتبسيط، فينشرح صدري.. لكن ما إن أشرع في قراءة الفصل الأول حتى أتوقف محتارًا أمام الفقرة التالية:
«من المهم ملاحظة أن عمليات تجاوز هذه الحدود وتوسيعها، قد ازدهرت في اتجاه أشمل، تمثّل في انفتاح السرديات على علوم أخرى غير اللسانيات، تتجاوز المستويات النحوية للمحكي، وتبحث في العلائق الممكنة بين أنساق السرد، وأنساق أكثر شمولية؛ اجتماعية وتداولية».
ثم هذه:
«يلاحظ (زيما) أن السرديات البنيوية، وخصوصا دراسة (جينيت) للعلاقات بين السرد والخطاب والحكاية، لا تسمح بصياغة روابط بين البنية السردية والبنية الاجتماعية، لأنها تلغي المحتوى الدلالي للسرد، فهي تصف التقنيات السردية، دون بث مضامينها الآيديولوجية والاجتماعية. بالموازاة مع شكلانية السرديات البنيوية، لم تستطع السيميوطيقا السردية أن تطور سيميوطيقا اجتماعية».
عند هذا، تأكد لي عجزي، وأدركت مدى القطيعة بيني وبين القراءة، وقررت أنني منذ اليوم، لن أعود إلى المنزل بكتاب قبل أن أفحصه وأتحقق من قدرتي على فهمه.