إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

أزمة أوباما مع «تانغو» المنطقة

قرأت خلال الأسبوع المنصرم مقالة أعجبتني للكاتب الأميركي توم فريدمان عن أي شرق أوسط سيتعرّف إليه الرئيس الأميركي المقبل – أو الرئيسة المقبلة – وقبلها كان أحد الأصدقاء العرب من الباحثين في الشؤون الدولية بالولايات المتحدة قد أعطاني رأيه بمقالتي السابقة في «الشرق الأوسط» حول إرث هنري كيسنجر في المنطقة، ولقد ربطها الصديق بقلقه من «انسحاب» الإدارة الحالية كليًا من الشرق الأوسط واهتمامها بمناطق أخرى من العالم، أبرزها الصين.
سواءً وافق المرء على كل طروحات فريدمان أم لا، فإن ثمة حقائق أوردها في مقاله، أزعم أنها لا تقبل الجدل، أهمها أولاً ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وثانيًا الصراع السنّي – الشيعي الذي طغى، للأسف، على الثورة السورية... وهي انتفاضة شعبية سلمية أطلقها شعب طحنته لأربعة عقود آفات الفساد والمحسوبية والدولة البوليسية الاستخباراتية.
بالنسبة للقضية الفلسطينية، أزعم أن فريدمان أصاب في مقاربته التي تخلص إلى «نهاية حل الدولتين»، ولو كان للمرء الحق في ألا يجعل مسؤوليات كل من أنحى عليهم باللائمة متساوية. وحقًا، في ظل الواقع الحالي سيتعامل مَن يحتل البيت الأبيض اعتبارًا من يناير (كانون الثاني) المقبل مع واقع احتلال فعلي لكل الأراضي الفلسطينية من البحر إلى النهر. أما المتسببون بهذا الوضع، حسب فريدمان، فهم:
1 - جماعات المستوطنين التوسّعيين، المصرّين على توسيع الاستيطان في الضفة الغربية في وجه كل من يتصدّى لهم.
2 - أثرياء اليهود الأميركيين الذين استخدموا نفوذهم لحماية رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو من أي موقف سلبي يتخذه الكونغرس.
3 - بنيامين نتنياهو نفسه وشبقه إلى السلطة على حساب التسويات السياسية.
4 - حركة حماس، التي يتهمها الكاتب الأميركي أنها «بصواريخها» و«أنفاقها» في غزة أثارت خوف كل إسرائيلي، معتدلاً كان أم متطرّفًا، مما يمكن أن يحدث لو تسلّمت حكم الضفة الغربية.
5 - الرئيس الفلسطيني محمود عباس، نفسه، الذي أقصى رجل دولة مثل سلام فياض يكافح الفساد ويؤمن بالمؤسسات، بدلاً من المراهنة على قرارات الأمم المتحدة.
أما في موضوع الصراع السنّي – الشيعي فإنه اعتبر أن واشنطن في عهدها الجديد ستواجه «لا دولة» في سوريا و«دولة غير موجودة أصلاً» اسمها «داعش» و«دولة مارقة» اسمها إيران. وفي الحالات الثلاث أصاب في التشبيه، وأيضًا في قوله: إن إقدام روسيا على زرع الدمار في سوريا لا يخرج عن كونه حربًا حقيقية تشنّها روسيا على أوروبا بفتحها عليها بوابات طوفان لاجئين من المناطق التي يتعمّد فلاديمير بوتين تهجيرها.
هنا، أسمح لنفسي بأن أدلي بدلوي..
«اللادولة» في سوريا مسألة صارت محسومة.. مهما كانت التحرّكات الميدانية. وذلك لأن القرارات السياسية والعسكرية الخاصة بسوريا تتخذ اليوم في موسكو وطهران وليس في قصر المهاجرين بدمشق. فبشار الأسد أضحى «وكيل تفليسة» ووسيلة ابتزاز وتأجيج مذهبي لا غير. والدور الوهمي الذي تلعبه كل من موسكو وطهران في كذبة «محاربة داعش» تتحمّس إدارة باراك أوباما لتصديقه... ويتولّى وزير خارجيته جون كيري تسويقه والترويج له بلا رفة جفن.
إن ما لا تريد الإدارة الأميركية تقبّله – وهذا جانب تنبّه إليه فريدمان – وجود مصالح حيوية متبادلة بين «داعش» وإيران.. إذ يستفيد أحد الطرفين من تطرّف الآخر ويتحجّج به ويقنع مناصريه بأنه المبرّر الطبيعي والبديهي، بل والضروري، لخطه السياسي المتطرّف. وبالفعل، فإن التصدّي الجدّي لـ«داعش» في ضمير السنة، وبالذات العرب السنة، بات يستحيل تبريره بينما يعربد الحرس الثوري الإيراني على امتداد العالم العربي، ويتباهى قادته بأنهم عبر عملائهم يسيطرون على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
ولكن لماذا نذهب بعيدًا في التنظير؟ لنأخذ كمثالين تخلّي بشار الأسد وقاسم سليماني عن الرقّة، وتسليم حكم حزب الدعوة في بغداد مدينة مثل الموصل تسليم اليد تقريبًا.
ما هي حاجة نظام طائفي مثل نظام الأسد أسّس منذ عقود – حتى قبل تولّي الأسد الابن السلطة بالتوريث – البنى التحتية لدويلة علوية في الساحل، وكان طيلة العقود الثلاثة التي هيمن فيها على لبنان الحاضنة للوليد الإيراني المسمّى «حزب الله»، إلى مناطق قصيّة سنّية مثل الرقّة والحسكة؟ لماذا يكترث هذا النظام بعشائر طيء والجبور والعقيدات والشعيطات وغيرها على طول الفرات وفي منطقة الجزيرة، ويتدخّل بفضّ نزاعاتهم مع مكوّن كردي تعامل معه دائمًا بفوقية وتعصّب؟ أليس أجدى له التعاون مع إيران على خلق ميليشيا طائفية ترفد «القوات الخاصة» و«سرايا الدفاع» وغيرها من تشكيلات النخبة الموثوقة، ماضيًا وحاضرًا، عندما يحين وقت الفرز وتنتهي أكذوبة العلمانية والتقدّمية والوحدة والاشتراكية؟
أما عن العراق، فالقاصي والداني يعرف مقدار الحقد والرغبة بالانتقام والتشفّي من حكم البعث، واجتثاثه تحت حراب الاحتلال الأميركي، خلف كل المحاكمات التي أجريَت بحق صدام حسين ورجاله. تلك كانت محاكمات سياسية تفوح منها رائحة الانتقام المذهبي والعرقي من ماضٍ مؤلم وسيئ بدلاً من أن تمهّد لعراق متسامح منفتح بديل.
وحتى عندما استغل تنظيم «القاعدة» الشعور السنّي بالغبن والتهميش فإن عشائر الأنبار هي التي رفضت التطرّف وعضّت على الجرح الذي فتحه نوري المالكي وخاضت بشجاعة انتفاضة «الصحوات». لكنها بدلاً من تكافأ وتُحترَم بالصورة التي تليق بها وتستحقها استمر التهميش بل تصاعد إلى حد الملاحقة والاضطهاد. وهكذا، بمزيج من مرارة الحاضنة وخبث أجهزة الاستخبارات الإقليمية وغير الإقليمية ولد تنظيم داعش، وفرّ «الدواعش» من سجن أبو غريب إلى سوريا، وسقطت الموصل... وها هو غرب العراق السنّي مهدد بكارثة تهجير مليونية «على المستوى السوري» إذا ما انهار سد الموصل.
واشنطن أوباما تقول: إنها لا تريد الغرق في مستنقع الشرق الأوسط. ولعلها أوهمت نفسها بأنها تستطيع ذلك من دون خسائر. إلا أنها كما يبدو نسيت عبارة «رقصة التانغو تحتاج لشريكين راضيين».. والواضح أن بوتين إما لا يجيد «التانغو» أو لا يحبها، ومثله أصحاب الكلمة الفصل في طهران.