خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الطبع والتطبع

هذا موضوع طالما شغل الفلاسفة والمفكرين. وردت عنه حكايات ومسرحيات وأفلام. هل تستمر الجينات في الدم بفرض شخصيتها وصفاتها على من تنتقل إليه رغم تبدل الظروف؟ أم أن الظروف والتربية تصبحان هما القوة التي تفرض صفاتها على صاحبها رغم ما في دمه من جينات؟
مما قرأناه في هذا الصدد الحكاية التي رواها الأصمعي. قال إنه رأى ذبيحة شاة أمامها امرأة عجوز تبكي وتنتحب. سألها ما خطبك؟ قالت إنها رأت طفل ذئب قُتلت والدته وبقي وحيدًا. عطفت عليه فأخذته لمسكنها وجعلته يرضع من حليب الشاة. أصبحت مثل أمه. ولكنه عندما شب وكبر، هجم عليها وقتلها وراح يأكل من دمها ولحمها. عادت العجوز فرأت شاتها التي تعيش عليها قتيلة ذبيحة. وتمثلت المرأة بهذين البيتين:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي
وأنت لشاتنا ولد ربيب
غنيت بدرها وربيت فينا
فمن أدراك أن أباك ذيب؟
هنا غلب الطبع والغريزة تطبع المخلوق وتربيته. أعارتني السيدة شارون ثيودور فيلمًا سينمائيًا فرنسيًا بعنوان «ابن الغير» (La Fils de l’Atre). يروي الفيلم حكاية طفلين في إسرائيل. حدث أثناء ضرب صدام حسين لإسرائيل بالصواريخ أن شاعت الفوضى في أحد المستشفيات فاختلط طفلان ولدا أثناء ذلك بحيث تسلمت عائلة يهودية أرثوذكسية طفلاً من أم عربية، وتسلمت الأم العربية طفل الأسرة الإسرائيلية. لم تدرك العائلتان ولا السلطات الإسرائيلية حقيقة ما حدث. نشأ الطفل اليهودي بين الأسرة الفلسطينية المسلمة، حيث سموه ياسين، ونشأ الطفل الفلسطيني المسلم بين الأسرة اليهودية المحافظة وأطلقوا عليه اسم جوزيف.
وعندما بلغ جوزيف الثامنة عشرة من عمره وتقدم للخدمة العسكرية، اكتشفوا عند فحصه أن جيناته لا تطابق جينات والديه. تعمقوا في سيرته وفتحوا ملفات المستشفى لعام 1990 فوجدوا الخطأ الذي حصل. اتصلوا بالأسرة الفلسطينية التي ربت ابنهم وسمته ياسين. صدمة هائلة لكلتا الأسرتين. لم تعرفا ما تفعلانه. ولكنهما في الأخير وبعد صراع نفسي مرير رضختا للأمر الواقع. واصل الطفل المسلم حياته كيهودي ابن يهود، وواصل الطفل اليهودي حياته كمسلم وابن مسلم فلسطيني.
بيد أن هذا الفيلم الفرنسي يأخذ مسارًا غير مسار الأصمعي، فيعتبر التطبع والبيئة أساس النفسية والذهنية عند الإنسان. كان سيد الأسرة اليهودية ضابطًا كبيرًا في الجيش الإسرائيلي، ولكنه كان أيضًا موسيقيًا يعزف كثيرًا في البيت. وتلقى منه جوزيف هذا الوازع فولع بالموسيقى وأتقن اللعب على القيثار. سعى إلى الالتحاق بعمته اليهودية في فرنسا وتوجه لدراسة الموسيقى. وهذه لفتة بليغة فليس كالموسيقى من فن أممي عالمي في طبعه. واستجاب جوزيف المسلم الجينات اليهودي التربية لتأثير الموسيقى التي سمعها من أبيه اليهودي.
بالإضافة لفكرة الفيلم الفكرية والفلسفية تشير من طرف آخر إشارة متفائلة إلى إمكانية عيش الفلسطينيين مع اليهود الإسرائيليين بسلام ووئام. وهو ما جعل إدوارد سعيد وبيرنبويم يتبنيان فكرة تأسيس فرقة «الديوان» السيمفونية، حيث يعزف اليهود الإسرائيليون والعرب معًا بانسجام وتناغم.