نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

ليكون شوكة في خاصرة العرب!

لم يوفَّق «تيار المستقبل» في اختيار عنوان للمهرجان السنوي إحياءً لذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، كما وفِّق هذا العام.. «معك حق، واليوم أكثر»، قال جمهور رفيق الحريري له في ذكرى استشهاده الحادية عشرة قبل أيام. هذه البداهة التي شكّلت المشروع السياسي الوليد من رحم جريمة الاغتيال، لم تكن بداهة قبل اغتيال الحريري. ولا قَبِلَ بها خصومه بعد اغتياله، إلى أن بات مشروع رفيق الحريري هو سفينة نجاتهم من حصيلة تجربتهم البائسة. يكفي التدقيق في الكلام الإيراني اليوم عن التنمية والنهوض وفرص العمل لإدراك حجم استنساخ تجربة الحريري بعد قتله!
تتضاعف في ضمير المقيم خارج لبنان وعقله دقة هذا الشعار، لا سيما حين يعقبه كلام للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بات يعد مادة هذيان كاملة. يقول نصر الله: «نحن أمام انتصارات لمحورنا وفشل للآخرين وهزائم متلاحقة للغير»! لا يرف له جفن وهو يتحدث عن الانتصار في بلد جُرح أو قُتل أكثر من عشرة في المائة من سكانه ودُمر أكثر من نصفه وهُجّر منه ودُفع للنزوح فيه ثلثا عدد السكان، وبات كل شعبه يحتاج للمعونات الدولية للبقاء على قيد الحياة!
قتل رفيق الحريري لأنه تجربة حية، في الإعمار، والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، وبناء الإنسان، وهي تجربة لا يمكن لها إلا أن تعري تجربة الانتصارات الموصولة التي حققها حزب الله ومحوره السوري - الإيراني، ولم ينفك يعد بمثلها «لقرون آتية»، كما قال نصر الله حرفيًا!!
حبذا لو يتسنى للبنانيين أن يتابعوا بؤس خطاب الانتصارات والمقاومة من إمارة دبي، أو لكي أكون واقعيًا في التوصيف، من كوكب دبي، الذي باتت تقاس المسافة عنه ليس بساعات الطيران، بل بسنوات ضوئية من الابتكار والمثابرة والرؤية!
ذات مرة اتصل رفيق الحريري بالصحافي جهاد الزين، معلقًا على مقال للزين قارن فيه بين بيروت ودبي التي وقّع فيها الروائي باولو كويلو آنذاك واحدة من روايته، وبادره بالقول: «دبي بتستاهل المديح. فينا نمدحها من دون إهانة بيروت!».
بالطبع، لا تنطبق كلمة إهانة على ما كتبه جهاد الزين يومها، لكنه فائض غيرة الرجل على بلاد تعامل معها كأنها بيته. ما يهين بيروت، ولبنان واللبنانيين في الواقع هو خطابات النصر البائسة التي يتحفنا بها محور المقاومة، من دون تقديم دليل واحد عليها إلا حجم الدمار الهائل الذي لم يمسس حتى الآن أجهزة بث خطابات نصر الله!.. «أنا أخطب، إذن أنا منتصر» هي فلسفة منتصري الممانعة في خرائب لبنان وسوريا واليمن والعراق، وغيرها.
لا يستطيع اللبناني إلا أن يسأل: ماذا لو كانت قررت الإمارات العربية المتحدة وحكومة دبي أن تنخرط في مشروع مقاومة في الخليج لتحرير جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى التي تحتلها إيران منذ 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971؟ لا شك أن هذه الجزر تفوق مساحتها ست مرات «إمبراطورية مزارع شبعا» التي يتخذها حزب الله ذريعة لاستمرار المقاومة، وهي تفوقها أهمية استراتيجية بالنسبة لأمن الإمارات وعمقها البحري!
لنتخيل للحظة ميليشيا إماراتية، تعيش جنبًا إلى جنب الجيش الإماراتي، أو أن فصيلاً رفض سياسة الإمارات حيال هذه الجزر وانتقد سياسة النهوض الاقتصادي، وقرر أن «الدولة غائبة»، وأنه بوسعه إطلاق مسيرة مقاومة مسلحة لتحرير الجزر!! لنتخيل هذا الأمر ونفكر بكوكب دبي اليوم!
قبل أيام استضافت دبي «القمة العالمية للحكومات» بمشاركة أكثر من 125 دولة حول العالم و3000 مشارك و125 متحدثًا وأكثر من 70 جلسة مختلفة، تخللتها كلمة للرئيس الأميركي باراك أوباما عبر دائرة تلفزيونية مغلقة. تعددت العناوين، لكن جدول أعمال القمة تصدره الهم الرئيسي؛ كيف تخرج المنطقة من أسر الحكومات الفاشلة والدول الفاشلة التي لا تهدد نفسها وشعوبها وحسب، بل تشكّل عامل تهديد لأي تجربة ناجحة في محيطها ومداها! وبأي سرعة ينبغي أن تخرج للتعامل مع الموجة الكبيرة الحاملة إلينا عالمًا جديدًا بكل تفاصيله، بقيمه وأدوات إنتاجه وتحدياته واختصاصاته. لا شيء بديهي في النقاشات المندلعة في كوكب دبي، في الوقت الذي نغرق فيه في لبنان في الدفاع عن بداهة بسيطة نقولها في ذكرى الحريري «معك حق، واليوم أكثر».
بداهةٌ ثانيةٌ مرعبةٌ شكّلت إحدى رسائل خطاب سعد الحريري في المناسبة، حين قال: «نحن عرب، وعربًا سنبقى»؛ فحين تصير البديهيات موضع نزاع وسجال يكون الانهيار قد ضرب عميقًا، وعميقًا جدًا، ويكون الفشل، الاجتماعي والسياسي والدولتي، الذي هجست به قمة دبي، قد غدا واقعًا فجًا وفاقعًا لا تخطئه عين.
لبنان رفيق الحريري، كان يُعد ويستحق أن يكون شريكًا في نهضة العرب وإنتاج جديدهم، وأن تكون دبي المشرق كما هي دبي اليوم بيروت الخليج!
يخيّل إليّ أن من قتل رفيق الحريري فهم مشروعه أكثر مما فهمه أنصار هذا المشروع. ومن قتله قتل معه أشياء كثيرة؛ شجاعة الأمل بغد أفضل وهوية عربية جديدة عنوانها النجاح.
أتذكر رفيق الحريري في دبي وأنا أستمع إلى حسن نصر الله، وتخطر لي عبارة نوري السعيد الجارحة التي ما كانت تصح يومها وتصح اليوم عن لبنان.
قتلوا الحريري ليكون لبنان «شوكة في خاصرة العرب»!