خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من أفضال لبن أربيل

ذقت في حياتي شتى أنواع الألبان، الزبادي والشنينة والمجفف، ولكنني لم أستطعم أي نوع منها كما أستطعم لبن أربيل المدخن. كم أفتقده في لندن! هناك عدة مطاعم كردية في إدجوار رود، وفي مقدمتها كبابخانة سرجنار ومطعم أزمر. كلها تستضيف زبائنها بكأس من لبن أربيل. ولكن أواه! أين هذا من لبن أربيل المدخن في أرجاء أربيل ذاتها. قيل لي إن لبن أربيل يعتمد على نكهة دخان أخشاب البلوط الكردية من كردستان. وهذا غير نار الغاز الاسكوتلندي.
إخواننا الأكراد يعتزون بهذا اللبن. وسمعت أن إحدى منظماتهم الوطنية في زمن صدام حسين، قدمت للأمم المتحدة مذكرة بمطالبهم مع نموذج من العلم المقترح، يتكون من خلفية خضراء ودائرة بيضاء يتوسطها شريط قهوائي. سألوهم ماذا تمثل هذه الألوان فقالوا: الأخضر هو خضرة كردستان والأبيض هو لبن أربيل والشريط القهوائي هو كباب سليمانية!
نزح ألوف منهم للخارج وما زالوا ينزحون ويغرقون. كان ممن نزحوا الملياردير حمدي أولوكايا. رحل إلى أميركا في التسعينات معدمًا وجاهلاً. تعلم اللغة الإنجليزية ثم درس الاقتصاد. انكب على العمل فلم تمر بضع سنوات حتى أصبح من كبار الأغنياء. من أين جمع ثروته؟ طبعًا! من لبن أربيل، فهو الآن يملك أكبر الشركات الأميركية في صنع اللبن، شركة جوباني للألبان. بلغت ثروته في شهر يناير (كانون الثاني) 1400 مليون دولار. ولكنها هبطت الآن إلى 700 مليون دولار. كيف حصل ذلك؟ كلا، لم تفلس الشركة ولا تناقصت أسهمها في البورصة ولا هبط الطلب على لبنه. كل ما حصل هو أنه تبرع بنصف ما يملك للنازحين من الشرق الأوسط.
أصبح السيد حمدي أولوكايا من نجوم الموسم، تسمع عنه أو تراه في شتى المناسبات. فالأميركيون يعتزون بمثل هذه الشخصية النمطية، المفلس المعدم الذي يطأ بقدميه أرض الولايات المتحدة وينكب على العمل والإبداع حتى يصبح علمًا من أعلام الشخصيات الأميركية، كما حصل لكثير من اليهود بصورة خاصة.
دعاه بيل كلينتون، الرئيس الأميركي الأسبق ليصبح ضيف الشرف في الاجتماع السنوي لمنظمته الخيرية. سألوه عن هذا التبرع المثير فأشار لما اقترفته «داعش» في كردستان العراق. تكلم بصورة خاصة عما عاناه الإيزيديون في سنجار، حيث اختطفوا نساءهم ليبيعوهن إماء وجاريات لمن يرغب ويدفع. قال: «الوطن الأم (كردستان) يدعوني فيجب أن أفعل شيئا».
وفي مؤتمر دافوس الاقتصادي تكلم أيضًا فأشار إلى واجب القطاع الخاص حيال هذه المعضلة، معضلة إسعاف وإغاثة اللاجئين والنازحين. قال إن هذه مشكلة يجب ألا تترك كليًا لمشيئة الحكومات ومسؤولياتها، وإنما على المؤسسات الخاصة أيضًا أن تقوم بدورها في الموضوع. أضاف فقال إن هؤلاء النازحين ليسوا عبئًا على الحكومات المضيفة، فسرعان ما يتحولون إلى أداة تساهم في إعمار وتنمية الدولة. وهل من مثل أصدق على ذلك من شخصيته الخاصة. كردي مسلم، لاجئ معدم، يعظهم ويعطيهم مثالاً حيًا لمن هاجروا وعملوا وأغنوا أنفسهم وبلدهم المضيف، وفي آخر المطاف جادوا بما كسبوا على وطنهم الأصلي.