إميل أمين
كاتب مصري
TT

ساندرز.. ثورة سياسية في واشنطن

يبدو أن نتائج الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية في ولاية أيوا لم تحمل مفاجآت فقط للجمهوريين، بل للديمقراطيين أيضًا، فالفوز الخافت جدًا لهيلاري كلينتون، على منافسها بيرني ساندرز قد فتح العيون والأذهان على المرشح القادم من ولاية فيرمونت، متميزًا بعمره المتقدم من جهة، وبثنائية مثيرة للجدل من جهة أخرى، لكونه يهودي الديانة، يساري التوجه، اشتراكي النزعة، الذي رفض الدعوات التي وجهها له حاخامات محليون، وقادة يهود ليصبح عضوًا فعالاً في المجتمع اليهودي الصغير في ولاية نيو إنغلاند.
من يمثل ساندرز بين صفوف الديمقراطيين؟
قطعًا رأس حربة الجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي من خلال التحدث عن عدم المساواة وقضايا «وول ستريت»، وهو معارض بصراحة وبصورة خاصة لاتفاقية التجارة الحرة التي يدفع نحوها الرئيس باراك أوباما.
هل كانت نتائج ولاية آيوا الأولية، كما قال ساندرز، رسالة عميقة المغزى إلى الطبقة السياسية والطبقة الاقتصادية، وكذلك الطبقة الإعلامية في الولايات المتحدة؟
الذين خبروا الحياة العامة الأميركية يدركون جيدًا كيف أن هذا المثلث يمثل القوة الضاربة التي تشكل الرأي العام الأميركي، الذي يدرك اليوم مقدار الاهتراء والخلل الذي أصاب أنساق الحياة الأميركية، تلك الدولة التي طالما تفاخر رؤساؤها بأنها مدينة فوق جبل، تنير للجالسين في الظلمة حرية وديمقراطية، دولة ذات أبواب مشرعة للجميع، فإذا بها تنكص على سابق عهدها.
عشية انتخابات آيوا وظهور النتائج قال ساندرز إنها «ثورة سياسية.. لم يكن لدينا تنظيم سياسي ولا مال ولا اسم، ولم يكن أحد يعرفنا في هذه الليلة، ومع ذلك فإن النتائج تظهرنا كمتعادلين.. ما الذي تغير في تلك الأمسية؟».
الشاهد أنه قد يكون تغييرًا ممتدًا لما هو أبعد من آيوا، فالناخب الأميركي في واقع الحال سئم ديمقراطية أصحاب المليارات الذين يجعلون من الديمقراطية الأميركية التي تتحدث بها «الركبان» سلعة تباع وتشترى على أرصفة «وول ستريت»، ولهذا فإن أحاديث ساندرز عن ديمقراطية الفرد والاقتراع، غالبًا ما لمست شغاف قلوب كثير من الأميركيين، الرافضين لأن تكون سياسات بلادهم الخارجية، وقراراتها المصيرية، رهن تبرعات الأغنياء، والشركات العابرة للقوميات، مما يفسد الحياة السياسية الأميركية في الحال والاستقبال.
قد تبدو نزاهة ساندرز واشتراكيته أكثر قبولاً عند قطاعات كثيرة من الأميركيين، أكثر قدرًا من هيلاري، التي أخفقت في تقديم نفسها مناضلة من أجل الطبقة الوسطى، وهو ما بان جليًا في علاقاتها مع رؤساء الاتحادات وأرباب المال من جميع الأطياف في الاقتصاد الأميركي، ورغم أن سلوكها لم يتجاوز الخطوط الحمراء، فإن مجرد استعدادها لفحص طلب واحد من الأغنياء الألف حول إعطاء تأشيرة لأحد أقاربه، يثير الغرابة والتساؤل حول قدرتها على محاكمة الأمور.
هل ستلعب هيلاري على وتيرة الاشتراكية، الكلمة سيئة السمعة في مجتمع الليبرالية الأميركية، الذي بات منفلتًا لا منفتحًا فحسب؟
بالقطع لن يسعى ساندرز ليعيد سيرة سلفادور الليندي أو هوغو شافيز الأولى، لا سيما أن هناك من القيود الهيكلية الداخلية ما يقطع الطريق على أي محاولات يمكن لساندرز أن يقوم بها في هذا الإطار، وعليه فإن أي تهويمات سياسية ومناورات حزبية يمكن لهيلاري أن تقوم بها سيكون مردودًا عليها، والقاصي والداني في الداخل الأميركي يدرك تمام الإدراك، الأدوار الخفية لجماعات المصالح التي تحجم وتلجم من طموحات أي رئيس، وفقًا لمصالحها الإمبراطورية، وعلى رأسها المجمع الصناعي العسكري.
الحديث عن ثورة ساندرز السياسية، لا يمكن أن ينفصل بحال من الأحوال عن النقاش الدائر حول هويته الدينية، فحتى الساعة لم يصل إلى مقعد الرئاسة الأميركية، أحد ما يؤمن باليهودية، وإن كان المجتمع الأميركي بحسب استطلاعات رأي مركز «بيو» الأخيرة، قد يقبل فكرة الرئيس اليهودي، ولا يقبل فكرة الرئيس المسلم، وعليه، فالتساؤل: «هل تكون يهودية ساندرز قيمة مضافة لحملته الانتخابية، أم خصمًا من رصيده في المجتمع الذي يجاهر أبدًا ودومًا بأنه (بوتقة انصهار)»؟
من الواضح أن ساندرز لا يراهن كثيرًا على مسألة إيمانه أو معتقده ويعتبر المسألة يقينًا إيمانيًا شخصيًا، كما أنه لا يحمل جنسية إسرائيلية، كمثل الكثير من يهود أميركا، وعندما سأله مقدم البرامج جيمي كيمل إذا كان يؤمن بالله، كان قوله مقبولاً من جميع الأميركيين، بل وجد في واقع الحال ترحيبًا: «ما أؤمن به وما هي روحانيتي، هي أننا جميعا في القارب ذاته، وأنا أعتقد أنه ليس أمرًا إيجابيًا أن نؤمن كبشر بأننا يمكننا تجاهل الآخرين». هذه ليست اليهودية، بل أبعد من ذلك، فقد أبدى اهتمامًا بالتأثير الإيجابي الذي خلفته زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس الأول للولايات المتحدة منذ بضعة أشهر، مثنيًا على طريقة تفكيره حول القضايا الاجتماعية والسياسية..
هل تفسر هذه القناعات لماذا لم يحتفل اليهود الأميركيون بترشحه على أنه حدث تاريخي، بالطريقة التي تم الاحتفال فيها بانتخاب السيناتور جو ليبرمان الديمقراطي كنائب للمرشح المحتمل في عام 2000 آل غور، حيث اعتبر الأمر وقتها نقطة تحول في الحياة اليهودية في أميركا؟
ظهور ساندرز على الساحة الأميركية في كل الأحوال يفيد بأن حركة الصراع التاريخي مستمرة داخل هذا البلد الإمبراطوري، من زمن حركة الحقوق المدنية، مرورًا بمناهضة حرب فيتنام، وصولاً إلى «احتلوا وول ستريت» وقد تكشف الأشهر المتبقية حتى موعد اختيار رئيس جديد لأميركا عن وجه جديد لفصل من فصولها، وقد يكون ساندرز أيقونة تلك المرحلة.