غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

في الحوار مع المرجعيات الدينية التقليدية

في الإسلام السنّي، تتفق المذاهب الأربعة على ألا قداسة دينية للبشر. وعلى الرغم من أن هذه المذاهب أغلقت باكرًا باب الاجتهاد الديني، فقد صانت للإسلام السني منطقه المنسجم مع عاديته الواقعية وبساطتها. وحافظت على الدين من المبالغات في التفسير. والتأويل. وغيبيات الألوهية ذات الأسرار والألغاز.
لا معصومية علماء السنة تتيح المجال للدخول في حوار مفتوح، حول أسلوب التصرف. والتفكير. والتوجيه لدى المرجعيات الدينية السنية التقليدية. هذا الحوار السائل. أو الناقد لا يشكل إطلاقًا تهديدًا. أو خطرًا على الإسلام في ثوابته القداسية، وفي مقدمتها وحدانية الله التي اعتقد بها الإسلام السني.
لكن لماذا الحوار مع المرجعية السنية التقليدية بالذات؟ لأنها شكلت على مدى خمسة عشر قرنًا المؤسسات المنتجة لفقه التفسير الديني (الاجتهاد). فهي حامية. ومحافظة على تراثه، في معاهدها. ومدارسها. وجامعاتها. ومساجدها. ولأن علماءها قادوا، في مراحل استثنائية النضال الديني حينًا، والعربي حينًا، لصد العدوان الأجنبي المسلح على ديار الإسلام، بما فيها العالم العربي.
هذا الحوار يبلغ منتهى الضرورة المحتمة، لأننا نعيش في عصر تسييس الإسلام. وتطييف وتخريب الدين، فيما حافظت المرجعية الدينية السنية على تقليدية حلفها التاريخي مع النظام الإسلامي والعربي الحاكم. فما رأي علماء ورجال الدين؟ هل كان هذا الحلف التقليدي لخدمة النظام، في إظهار وإثبات تقواه أمام جمهوره المحافظ والمتدين؟ أم كان الحلف ضرورة محتمة على المرجعيات الدينية، لأن النظام هو المؤسسة الوحيدة القادرة على تمويلها وإعاشتها؟
قادت المرجعية التقليدية الأزهرية النضال الشعبي ضد غزو نابليون لمصر. ثم انسجمت مع نظام محمد علي. واشتبكت مع الإصلاحية الدينية (جمال الدين الأفغاني. محمد عبده. رشيد رضا). وواصلت الاشتباك مع الأزهريين طه حسين وعلي عبد الرازق. ثم وقفت على الحياد، عندما بات الشيخ رشيد رضا الأب الروحي الملهم للجمودية الإخوانية عند الداعية حسن البنا الذي سيَّس الإسلام، محاولاً قطع الطريق على تواصل التراث الأدبي والثقافي مع تعددية الثقافات الإنسانية.
منذ القرن الثامن عشر، نشأت مرجعيات دينية سنية، لمكافحة البدع التي استغلت، في انتشارها، جمودية النظام السلطاني العثماني ومرجعيته الدينية الشديدة الالتصاق به، والخضوع لمشيئته في فتاواها. غير أن «المرجعية المهدية» حالفت القبيلة في السودان. وسمعت «نصيحة» الاستعمار البريطاني بعدم الاتحاد مع الشقيقة مصر. ثم اصطدمت أخيرًا مع عسكرية نظام جعفر نميري. ثم ضعفت مقاومتها أمام عسكرية نظام البشير.
تمكنت «المرجعية السنوسية» من إقامة نظام هش مع فراغ الصحراء في ليبيا! فلم تصمد أمام انقلاب معمر القذافي الذي حاول إنشاء مرجعية دينية لنفسه، انتهت بعد أكثر من أربعين سنة بقتله.
أما مرجعية الموحدين (الوهابية)، فقد حققت نجاحًا كبيرًا في وقوفها مع النظام المدني السعودي. ودعمت مشروعه لتوحيد الحجاز. ونجد. والأحساء. وتصفية الحكم السلطاني العثماني في شبه الجزيرة العربية. وحماية الأماكن المقدسة. فكان المشروع السعودي هو المشروع الوحدوي الوحيد الذي نجح في العالم العربي.
أخفق المشروع الناصري لتوحيد مصر وسوريا المدعوم بالمرجعية الدينية الأزهرية التي ما لبثت أن منحت الرئيس أنور السادات ثقتها مع المرجعية الإخوانية. لكن هاتين المرجعيتين التقليديتين لم توفرا له الحماية من حلفه المشؤوم مع المرجعية المتزمتة الذي انتهى باغتياله.
جدد نظام مبارك الوارث لنظام السادات حلفه مع المرجعية الأزهرية. ونجح في استعادة عروبة مصر بالاقتراب من النظام الخليجي. وفي ضبط المرجعية «الأفغانية» المتزمتة. وإجبارها على التخلي عن العنف الديني. لكن طول الإقامة على سدة السلطة لم يصمد أمام ثورة شباب الإنترنت.
الجمودية الإخوانية لم تنجح في سرقة الثورة. فسقط نظامها قبل أن يتمكن من تقويض الانفتاح الثقافي. فاستعاد النظام الجديد المبادرة، باعتماده على المرجعية الأزهرية. واقترابه من النظام الخليجي. لكنه يواجه تمرد المرجعيات المتزمتة من جهة. ورفض مرجعيات الإنترنت الشبابية التعاون معه من جهة أخرى.
كذلك يبدي «دعاة» الإصلاح الديني والمثقفون «العلمانيون» على الإنترنت اعتراضًا على جرعة الشعائر (الطقوس) وأسلوب التلقين والتحفيظ. ويقولون إن الأجيال الجديدة باتت مهيأة لتقبل الأسلوب الداعشي والقاعدي في التعامل اللاإنساني مع المجتمعين العربي والعالمي.
الجدل غير المباشر بين المرجعية الدينية السعودية وهؤلاء الدعاة ما زال قائمًا. وقد أصدرت المرجعية عدة بيانات تدين المرجعيات الداعشية والقاعدية. وتدعو إلى التسامح. ولعل ندوة مراكش الدينية التي عقدت في يناير (كانون الثاني) الماضي، بحضور 300 عالم من المرجعيات الدينية التقليدية العربية والإسلامية، تنطوي على جانب من الرد على الدعاة. ووصلت الجرأة بالندوة إلى الاستماع لشكوى ممثلي الأقليات المذهبية التي تصر على استقلاليتها، أو لا يحظى إسلامها باعتراف المرجعيات. فدعا «إعلان مراكش» إلى اعتماد التسامح في المجتمعات الإسلامية، بصرف النظر عن الفوارق المذهبية.
هل يستطيع النظام العربي والإسلامي استدعاء علماء المرجعيات للنزول إلى الشارع، للحوار مع الشباب ومكافحة التزمت. وتطبيق أسلوب المناصحة الدينية الذي لقي نجاحًا في السعودية؟ ثم هل هناك استعداد مرجعي لتجديد الخطاب الديني؟ ولاستعمال المفردات الحداثية المعاصرة لحقوق الإنسان الواردة في صميم الفقه الديني، غير المفهوم لدى الإنسان المسلم المعاصر؟ وهل هناك مجال لطرح قضية المرأة. عملها. بطالتها. زواجها. طلاقها... في الحوارات الافتراضية بين المرجعيات والمثقفين؟
هل يمكن أن يتناول الحوار موقف الجانبين من الثقافة. والفن. والمسرح. والسينما. ومواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت؟ هل يمكن الاتفاق على حماية اللغة العربية من هذا الانحدار المتسارع نحو العامية المحلية التي ستقضي على التفاهم اللغوي بين العرب، خلال عقود زمنية قصيرة؟ ماذا أيضًا عن الموقف من استغناء المرأة «المتحررة» عن تاء التأنيث الجميلة. واعتناقها استخدام الألف الممدودة في اسمها؟
أيضا، ماذا عن الاقتصاد الإسلامي؟ هل تستطيع المرجعيات التقليدية أن تزودنا بمعلومات عن كيفية إدارة واستثمار أموال وممتلكات الأوقاف الإسلامية التي تقدر قيمتها بالتريليونات من الدولارات؟ ثم ماذا عن حقيقة المصارف الإسلامية التي لا تطبق الربا. هل أرصدتها بعيدة حقًا، عن الاندماج في عولمة الاستثمار مع الأموال السائلة للمصارف الكبرى في العالم؟
أخيرًا، هل يمكن مناشدة المرجعيات الدينية رد الاعتبار للطريقة المصرية، في ترتيل القرآن الكريم وأداء الأذان؟ فقد ضيع التزمت الديني صفاء الأداء المصري الذي يملأ قلوب ملايين المتدينين وغير المتدينين بالخشوع المتسامح.