خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ملكتان وفلاح تركي

اجتاحت غرب أوروبا في القرن الثامن عشر موجة العقلانية، الإيمان بالعقل والعلم والتجربة. كان من رواد هذه المدرسة الملكة آن، ملكة بريطانيا. بيد أن أوروبا تعرضت أيضًا لوباء الجدري. وكان ممن تخوفوا من الإصابة به هذه الملكة. لم تؤمن بكل تلك الخرافات والخزعبلات والتعاويذ التي كان الناس يجنحون للإيمان بها. استدعت العلماء والأطباء. وحدث أن سمعت من السفير البريطاني في إسطنبول الذي كان علمانيًا مثلها. قال لها إن الفلاحين في تركيا يعمدون إلى جرح أولادهم ثم يطعمون الجرح بشيء من مصل الجدري الذي يسيل من بثرات المصابين بالمرض. وهذا يحصنهم ضد العدوى. أمرت طبيبها بتجربة ذلك، رغم كل معارضة رجال الدين وقادة الأمة. من يتطوع للتجربة؟ لو كانت في «داعش» لقالت جربوها على النصارى. بيد أن الملكة آن كانت أرفع من ذلك. قالت جربوها علي وعلى أولادي. ونجحت التجربة.
بيد أن الجدري ظل يداهم أوروبا ووصل إلى أعماق الإمبراطورية الروسية حيث كانت الملكة كاترينا إمبراطورة عليها. ولكن الملكة كاترينا لم تكن روسية قط وإنما كانت أميرة ألمانية وتأثرت هي الأخرى بالمدرسة العقلانية العلمانية. درست جل ما كتبه فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو وسواهم. أدخلت في موسكو وبيترغراد الكثير من إبداعات الفن الأوروبي، في العمارة والموسيقى ونحو ذلك.
ما إن سمعت باجتياح وباء الجدري لإمبراطوريتها حتى ارتعدت من عقباه. وكانت كالملكة آن تحتقر كل هذه التمائم السحرية والمعتقدات الخزعبلاتية المنتشرة في بلادها والتي يلجأ لها الجمهور الساذج كلما وجدوا أنفسهم في محنة. بعيدًا عن ذلك، استشارت الأطباء والعلماء المجددين. قالوا لها إنهم سمعوا بطبيب في إنجلترا، توماس دسديل، يحصن الجمهور بجرح ذراعهم وتطعيم الجرح بميكروبات المرض فيكتسب المرء المناعة ضد جراثيم الوباء.
حذرها حاشية البلاط ورجال الكنيسة من اتباع ذلك. قالوا لها احذري من هذا الإنجليزي الدجال المشعوذ. اعتمدي على ما لدينا من تمائم وتعاويذ مجربة من زمن آبائنا وأجدادنا. ما عليك بهذا المستر توماس دسديل.
قالت: كلا، هذا كله هراء. كتبت لسفيرها في لندن أن يدعو هذا الطبيب لزيارة موسكو. ففعل وحكى لها ما تعلمه من تجارب الفلاح التركي. قالت: هيا بك؟ من يتطوع بغرس جسمه بميكروبات الجدري؟ تردد القوم وتخوفوا. مدت ذراعها وكشفت عن عضدها وقالت للبروفسور توماس دسديل: هيا! شوف شغلك. وكان دسديل قد جلب معه كمية كافية من مصل الجدري. فشق جرحًا في العضد الإمبراطوري الأبيض السمين، وطعمه بميكروبات المرض. مسك القوم أنفاسهم ولكن الإمبراطورة كاترينا بقيت على صحتها وعافيتها ولم تصب بالمرض. أمرت بتطعيم أولادها أيضًا ففعل. وشاعت عمليات التطعيم ضد الجدري في عموم الإمبراطورية. وكلها بفضل ذلك الفلاح التركي الذي فكر في الموضوع وغامر بتطبيقه. هكذا شاع أسلوب التطعيم بالمصل في عموم العالم. وكله بفضل ذلك الفلاح التركي البسيط. فلو تأملنا في الأمر لسجلناه كواحد آخر من أفضال العالم الإسلامي على البشرية.