علي إبراهيم
صحافي وكاتب مصري، ونائب رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

الاندماج الصعب

لا توجد رواية واضحة عما حدث ليلة رأس السنة عند محطة القطارات في كولونيا بألمانيا، أو في مدن أوروبية أخرى عندما قدّمت مئات النساء شكاوى من تحرشات جنسية أو سرقات قام بها مئات من الشبان المهاجرين، مستغلين جو الصخب الذي يحدث عادة وسط هذه الاحتفالات الغربية.
لم يوضح أحد من هؤلاء المهاجرين، ما هي حكاية الحلقات التي شكلوها للتحرش بالنساء، ومن هم الأشخاص الذين كانوا يعطونهم تعليمات حسب بعض الروايات الصحافية؟ لكن النتيجة أن الجو العام «تكهرب» في أوروبا تجاه قضية اللاجئين، وربطت المسألة فورًا باللاجئين السوريين، رغم أن الروايات الصحافية أشارت إلى أنهم من شمال أفريقيا.
قبل أسابيع كانت الصورة مختلفة تماما، بعد أن ظهرت صورة الجندي التركي وهو يحمل جثة الطفل السوري الكردي آلان، الذي غرق مع عائلته الهاربة من كوباني، وهم يحاولون عبور البحر من تركيا إلى اليونان، بحثا عن فرصة أفضل في الحياة بأوروبا، وقتها اهتز ضمير العالم، وأعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن بلادها مستعدة لاستقبال مليون لاجئ سوري، وبدت دول أوروبية أخرى على الطريق في تحمل جزء من العبء الناجم عن هذه المأساة الشرق أوسطية، التي تمددت إلى الخارج.
انقلبت الصورة بعد أحداث التحرش التي تحولت إلى قضية سياسية في ألمانيا مع ضغط اليمين المتطرف الرافض أصلا للاجئين، وامتدت المسألة إلى بقية دول أوروبا، وأصبحت مادة عناوين يومية في الصحف والمجلات، بالإضافة إلى جدل بين السياسيين والأحزاب الحاكمة والمعارضة.
آخر فصل في هذا الجدل هو المقال الذي كتبه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أمس، في جريدة «التايمز» البريطانية، والذي شدد فيه على أهمية اندماج النساء المسلمات في المجتمع البريطاني وتعلمهن الإنجليزية، في ضوء إحصائيات عن وجود آلاف لا يعرفن اللغة، وكذلك تشديده على القيم البريطانية في حرية النساء لاختيار من يردن العيش معه، والطريقة التي يخترن بها ثيابهن.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يجري فيها التطرق إلى هذه المسألة، لكن الطريقة المباشرة التي تعكس تصميما، وانتشارها بين السياسيين الأوروبيين هو الجديد، ويعكس تغيرا في المزاج العام عما كان يجري الحديث عنه كمجتمعات متعددة الثقافات، فهل توقف ذلك؟ ولماذا المسألة تبدو موجهة ضد المسلمين فقط.
يجب الاعتراف بأن هناك مشكلة، وأن المسلمين هم أقل الفئات أو المهاجرين قدرة على الاندماج، أو على الأقل تفهم الثقافات الأخرى واحترام الاختلاف، وعدم السعي لفرض مفاهيمهم أو ثقافتهم على الآخرين.
وبين المهاجرين إلى أوروبا هناك ثقافات أخرى كثيرة، وبعضها يواجه مشكلات في الاندماج، لكنها لا توجد بينها ظواهر تطرف وعنف، مثلما حدث مؤخرا من تنظيمات تتمسح بالإسلام وتروع العالم، بالضبط كما أنه يبدو شيئا غير مفهوم أن ينجذب شبان وشابات أوروبيات من أصول مهاجرة من دول إسلامية لأفكار تنظيم متطرف مثل «داعش»، ويذهبون للقتال معه.
الأسباب الحقيقية لهذه الظواهر اجتماعية أكثر منها دينية، وتتعلق بعقدة البحث عن هوية والشعور بالضياع بين ثقافة مجتمع ولدوا وعاشوا فيه وعائلات سعت لمنعهم من الاختلاط به أو التعايش مع أفكاره، فلجأ هؤلاء بعد شعورهم بالتهميش إلى البحث عن هوية من خلال أفكار تكفيرية أو انتحارية تقوم بإشعارهم بالتميز وامتلاك الحقيقة عن الآخرين، وهم لا يهربون فقط من المجتمعات التي لم يستطيعوا التعايش معها، لكن أيضا من عائلاتهم.
الدعوة إلى الاندماج صحيحة مائة في المائة، وتحتاج إلى جهد من الحكومات والجاليات أيضا، ولن تحدث نتيجة صحيحة باللجوء إلى نفس الأساليب القديمة عن طريق جمعيات إسلامية يطلق عليها وصف المعتدلة، فالكثير منها ليس كذلك حقيقة، وأفضل السبل هو تطبيق قواعد المواطنة ومناهج مؤسسات الدولة التعليمية والثقافية مثل الجميع. والاندماج لا يعني التخلي عن العقيدة أو التقاليد، لكن على تفهم الاختلاف والتسامح واحترام حريات الآخرين. وحتى نكون منصفين فإن الغالبية من المهاجرين المسلمين يسهمون بجدية في تنمية ورخاء المجتمعات التي حصلوا على مواطنتها، وبينهم نماذج كثيرة متفوقة ولمعت في حقول المعرفة والتكنولوجيا والمال والأعمال.