رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الصراع على العرب صراعٌ على الدولة

أراد الإيرانيون منذ البداية أن يكونَ صراعُهُم مع العرب صراعًا دينيًا. قالوا إنهم هم الذين يمتلكون الزعامة في العالم الإسلامي، وإنهم هم الذين أوكل إليهم الدفاعُ عن الإسلام من خلال تبنّي قضاياه الكبرى وفي طليعتها قضية فلسطين. وقد انخدع بذلك كثيرون من العرب، لأن الشعار المرفوع كان: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل.
بيد أنّ هذا الشعارَ سُرعان ما انكشف بعد أن شاركوا الأميركيين في الاستيلاء على العراق، وإشاعة القتل الطائفي والتهجير فيه. وفي الوقت نفسِه انكشف إيواؤهم لـ«القاعدة» لاستخدامها عربيًا، والاستيلاء على لبنان واغتيال قياداته السياسية والثقافية وأخيرًا التدخل العسكري في سوريا واليمن، والافتخار بأنهم استولوا أخيرًا على أربع عواصم عربية. وأقول إن شعاراتهم انكشفت، لأنهم هم أنفسهم انهمكوا في إقامة التنظيمات الطائفية المسلَّحة وغير المسلَّحة في سائر الدول العربية، بخاصة دول المشرق العربي والجزيرة. وهكذا، وعندما ما عاد نافعًا أو مجديًا استخدامُ الشعارات الإسلامية العامة، ما تردَّدوا في استخدام الشعارات والممارسات الطائفية. قال لنا حسن نصر الله وهو ذاهبٌ لمقاتلة الشعب السوري، إنه إنما يذهب لمقاتلة «التكفيريين» في القصير والقلمون وجوار دمشق ودرعا وحمص وحلب. وقال نصر الله للكوادر الذين ما تحمّسوا لمقاتلة الناس الذين عاشوا قرونًا بجوارهم: إن لم تقاتلوهم الآن فإنّ النجف وكربلاء وقم ستكونُ مهدَّدةً غدًا! في عام 2007 قال لي وزير سوداني إنّ الإيرانيين أقاموا بالسودان مراكزَ للتشييع. وقد قلنا لهم: لكنّ الدولة السودانية صديقةٌ لكم، ونحن جميعًا معكم، فما الحاجةُ إلى كسْب قلةٍ صغيرةٍ وتضييع تأييد الأكثرية لكم؟! وما شكا منه السودانيون شكا منه المصريون والمغاربة والسوريون والفلسطينيون والكويتيون، بل وسائر العرب، وبينهم شيعةٌ وسنة. شهدتُ قبل مدة نزاعًا بين يمنيين كلُّهم من أنصار الحوثي. قال أحدُهُم لزميله: نحن نشكر الجمهورية الإسلامية على دعمها لنا، لكنْ ما الحاجةُ لدى إيران، ما دمنا جميعًا معها الآن، لعمل دَورات لآلافٍ منا لتحويلهم إلى التشيُّع الإمامي أو الاثنى عشري؟ هل تعتقد يا أخي بالفعل أنّ مذهبهم أفضل أو أولى بالحقّ من مذهبنا؟! وما تردَّد زميلُه بالقول: نعم، إنه بالفعل مذهبُ أهل البيت حقًا، ولا دينَ غيره! وقال لي الكهل اليمني في ما بعد: متى تنتهي هذه الحربُ التي إنْ لم تنتهِ فسينتهي المذهب الزيدي؟! ولم أفهم في البداية، فتابع: لا أعني الإبادة، بل أعني التحول إلى الاثنى عشرية! وقلتُ مُجادلاً: كيف تريدُ لهذه الحرب أن تنتهي والحوثيون يحاولون كل يومٍ مهاجمة السعوديين في عُقْر دارهم رغم المحادثات والمفاوضات؟ وكيف تنتهي وأنتم مصرُّون على قتل إخوانكم في تعزّ وتجويعهم؟ وقال الرجل مترددًا: كلُّ هذه الحروب المُثارة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، هدفُها أولاً وأخيرًا محاصرة السعودية حتى لا يعودَ للعرب رأسٌ يفكّر ويُبادر، وإلاّ فقل لي: مَن الذي يُبادر إن لم تفعل السعودية؟ إذا انكفأت المملكة ضاع المشرق العربي، أو تحول إلى ساحاتٍ لحروبٍ استنزافيةٍ بين السنة والشيعة، ساعة باسم «داعش» أو «النصرة»، وساعة باسم «أبي الفضل العباس» أو «حزب الله»!
ما إن أعلن الغضبُ الإيراني عن نفسه عبر تصريح خامنئي حتى انطلقت الأبواق المذهبيةُ والطائفيةُ في العراق ولبنان. وبعد أن كان حسن روحاني قد أسِفَ لإحراق السفارة السعودية في طهران، والقنصلية في مشهد، سارع الرئيس المنتخَب والإصلاحي والمعتدل لعقد مؤتمر صحافي لعق من خلاله كلامه السابق، وزايَدَ على نصر الله في الهجوم على المملكة، متناسيًا إحراق السفارة والقنصلية وهو رئيس الدولة! أما العراقيون الذين مضى عليهم شهورٌ وهم يتظاهرون ضد الفساد (المالكي)، وضد الإدارة الإيرانية للبلاد ضمنيًا، فشاهدناهم وفي طليعتهم مقتدى الصدر (بعد المالكي طبعًا) وهم يتهددون المملكة والعرب جميعًا بالثبور وعظائم الأمور.
إنّ المقصود من هذا الاستعراض كلّه ليس التحريض، ولا حتى التذكير، بل المقصود تقرير واقع موجود سواء أكان حقيقيًا أو يوشك أن يكون كذلك. لقد نجحت إيران عبر عقدين وأكثر في ما لم ينجح فيه صدام حسين. أراد صدام خلال حربه مع إيران إعادة أسطورة «عرب/ عجم» أو «سنة/ شيعة»، وما قبض أحد منه لا هذا ولا ذاك. أما الإيرانيون فإنهم نجحوا في إثارة حربٍ دينيةٍ على العرب، تارةً باسم الإسلام، والآن باسم التشيُّع. وهي حربٌ تشاركهم فيها جماعاتٌ ذات أصول عربية في عدة بلدانٍ عربية وغير عربية. فالذين يحملون على السعودية من العرب ليسوا جميعًا من الغوغاء المذهبية التي انصرفت لهدْم المساجد، مثلما فعلت عامي 2006 و2007، ومثلما فعل النظام السوري طوال السنوات الماضية، ومثلما فعل «داعش» ويفعل، بل منهم من يعتبر نفسَه قوميًا ويساريًا، بل وبينهم بعثيون أشاوس كانوا من أنصار صدّام. وهؤلاء المذهبيون والطائفيون واليساريون والقوميون يُنافسون في كراهية السعودية داعشًا والمتطرفين الآخرين ذوي التسميات المتعددة. والدليل على أنّ المقصود من وراء السعودية العرب ودولهم وسيادتهم وما تبقّى لهم، أنّ كثرةً من هؤلاء وأمثالهم سبق لهم أن وقفوا الموقفَ نفسه من مصر عام 1967 بحجة أنّ اليساريين أو الإسلاميين هم الأقدرُ على تحرير فلسطين، تمامًا مثلما يزعم هؤلاء الآن أنّ إيران وليس العرب هم الأولى بتحرير فلسطين! ومن أين، وكيف؟ من طريق قتل الشعب السوري وتهجيره! ولدينا صحيفتان لبنانيتان ذهبتا، ويا للغرابة، إلى أن السعودية أولى بأن تُقاتَلَ من الصهيونية!
يقال إن الأمم تزدهر طاقاتُها في الأزمات الخانقة، وتزدهرُ طاقاتُها عندما يكونُ هناك مشروع. والأزمة خانقةٌ بالفعل. أما المشروع فهو حاضرٌ أيضًا، وإلاّ فليقل المتشككون والمتخاذلون، أي مشروعٍ أولى من الحفاظ على الأوطان وعلى الدول التي يتهددها الغزو والاختراق والخراب والحروب الأهلية؟ بالأمس حصلت للجيش العراقي انتكاساتٌ في الرمادي فلم يحرك أحد في بغداد ساكنًا، في حين هاج الجميع تطلبًا للثأر من السعودية! وبالأمس هجم «داعش» بليبيا محاولاً الاستيلاء على الهلال النفطي بالبلاد. وفي حين دافع الحراس عن الموانئ، أصرَّ المتقاتلون بالشرق وبالغرب على الحشد بعضهم ضد بعض، وضد المبعوث الدولي للمصالحة الوطنية، فعلى ماذا يتحشد هؤلاء إذا ضاعت البلاد؟!
إنّ هذا الشحن الطائفي والمذهبي الذي تقوده إيران، في الوقت الذي نصارع فيه نحن العرب الانشقاقات التي تتهدد ديننا ودولنا، يجعلنا أكثر إحساسا بالحاجة إلى التضامن، وبالحاجة إلى الدولة. فالدولة في كل مكان من العالم العربي هي مشروعُ الصمود والتصدي والنجاة. ودولة العرب الآن هي السعودية.