صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

انهيار السلطة الفلسطينية.. كارثة عربية مؤكدة!

للمرة الأولى، منذ ما بعد توقيع اتفاقيات أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، تناقش الحكومة الإسرائيلية، في اجتماع مغلق، دعا إليه رئيسها بنيامين نتنياهو، احتمال انهيار هذه السلطة في ضوء توقف عملية السلام عمليًا، وأيضًا في ضوء انشغال العرب والدول العربية بما يجري في سوريا والعراق وليبيا واليمن وانشغال العالم بـ«داعش» والإرهاب، وبخاصة بعد جريمة باريس الدموية، وبعد إسقاط الطائرة الروسية في سيناء، وأيضًا في ضوء انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية التي هي بالمعايير الأميركية باتت تقف على الأبواب!
وبالطبع، فإن ما يجعل الإسرائيليين وغيرهم يتوقعون انهيار السلطة الوطنية - التي إذا أردنا أن نكون منصفين فإنه علينا ألا نغفل، ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة، عن أنها صمدت صمود الجبابرة - هو أنها باتت تعاني عجزًا ماليًا فعليًا في ضوء متطلبات الإنفاق الهائل على شعب يعيش حالة حصار طويلة، وفي ضوء تدني الدعم العربي، وأيضًا في ضوء إغلاق إسرائيل أبواب العمل أمام العمال الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة المحاصر فعليًا أم في الضفة الغربية التي يعيش أهلها الآن ظروف حرب فعلية وحقيقية.
في هذا الاجتماع، الآنف الذكر، انقسم وزراء الحكومة الإسرائيلية إلى قسمين: قسم أيَّد انهيار السلطة الوطنية الفلسطينية وطالب بتشجيع هذا الانهيار والعمل على تسريعه.. وقسم - يبدو أنه شكل الأكثرية - يرى أنه إذا حصل هذا، فسيؤدي إلى فوضى عارمة سيستغلها «داعش»، وسيستغلها باقي التنظيمات الإرهابية، وسيستغلها أيضًا بعض القوى والتشكيلات الفلسطينية المتشددة، لتحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى «قندهار» جديدة وإلى «رقَّة» ثانية، وسيكون الخاسر الأكبر - إذا ما حدث هذا بالفعل - هو الإسرائيليين والمستوطنات الإسرائيلية، وبالتالي إسرائيل ستضطر إلى مواجهة ظروف حربٍ حقيقية ستكون عبئًا ثقيلاً على أوضاعها الاقتصادية السيئة أصلاً وعلى أوضاعها الأمنية حتى في تل أبيب وكل مدنها وقراها الداخلية.
ثم والمعروف أنَّ جزءًا من دوافع إسرائيل للقبول بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، وفقًا لاتفاقيات أوسلو المعروفة، هو التخلص من الأعباء الاقتصادية للضفة الغربية، وسابقًا لقطاع غزة، وذلك على أساس أنَّ الدولة المحتلة، وأي دولة محتلة، تتحمل كل تبعات الاحتلال اقتصاديًا وأمنيًا وكل شيء، مما يعني أن انهيار هذه السلطة سيحمل إسرائيل كل تبعات هذا الانهيار وفي المجالات كافة.. وحتى في مجال التعليم والصحة والبنية التحتية لكل المناطق والأراضي التي ستعود إلى الاحتلال المباشر مجددًا ومرة أخرى!
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، الذي كان قد لوَّح بالتنحي وبالاستقالة وبعدم الترشُّح مرة أخرى في حال إجراء انتخابات جديدة، قد استمر بوصف واقع الحال في الضفة الغربية بأنه احتلال غير مكلفٍ للدولة المحتلة، وأنه على إسرائيل التي تضع العصي في دواليب عملية السلام وتعطلها، بل وترفضها، أنْ تتحمل تكلفة احتلالها الأراضي الفلسطينية أمنيًا واقتصاديًا إذا بقيت الأمور تدور في هذه الحلقة المفرغة، وإذا بقي بنيامين نتنياهو، مستغلاً الأوضاع المستجدة في المنطقة وميوعة هذه الإدارة الأميركية ورداءتها، يناور ويداور ويعوق أي توجه فعلي لأي خطوات جادة نحو سلامٍ حقيقي على أساس القرارات الدولية.
وهكذا، فإنه مستبعد جدًا أن تقبل حتى هذه الحكومة الإسرائيلية، اليمينية والمتطرفة وأيضًا الإرهابية، التي على رأسها بنيامين نتنياهو، بانهيار السلطة الوطنية الفلسطينية، أو تشجيع هذا الانهيار الذي هو - إذا أردنا قول الحقيقة المُرَّة - غير مستبعد على الإطلاق، بل وارد في أيِّ لحظة ما دام الاحتلال في الضفة الغربية قائمًا وبأبشع أشكاله، وما دام الإسرائيليون يمارسون في الأراضي الفلسطينية التي يحتلونها دموية وذبحًا وتقتيلاً وتدميرًا أكثر كثيرًا مما مارسه العنصريون البيض على أهل البلاد الحقيقيين في جنوب أفريقيا.. وأيضًا ما دامت عملية السلام معطلة على هذا النحو، وما دام أنه لا خير يُرتجى من هذه الإدارة الأميركية في نهايات عهدها، وما دام أنها لم تفعل شيئًا لا في بدايات هذا العهد، ولا في ولاية باراك أوباما الأولى، ولا فيما مضى من ولايته الثانية.
وهنا، فإن ما يثير الاستغراب بالفعل أن هناك فلسطينيين؛ من بينهم حركة حماس، وبالطبع حركة «الجهاد الإسلامي»، كانوا قد طالبوا وهم ما زالوا يطالبون، حتى بعد ظاهرة «حرب السكاكين» ضد المحتلين الإسرائيليين، بحل السلطة الوطنية التي هي ورغم كل شيء تعد إنجازًا وطنيًا فلسطينيًا كبيرًا؛ أولاً لأنها إلى جانب منظمة التحرير باتت تشكل الإطار السياسي للشعب الفلسطيني، ولأن الأمم المتحدة قد اعترفت بها دولة فلسطينية تحت الاحتلال، ولأنها أصبحت عضوًا كامل العضوية في كثير من الهيئات العالمية الفاعلة من بينها محكمة الجنايات الدولية.
إن إسرائيل تستفرد بالشعب الفلسطيني وتمارس ضده إرهابًا منظمًا أبشع وأخطر من إرهاب «داعش» وباقي التنظيمات الإرهابية، ثم إنه معروف أن العرب ينشغلون عن أشقائهم الفلسطينيين بكل هذا الذي يجري في سوريا وفي العراق وفي اليمن وليبيا ولبنان والمنطقة كلها، وأن السلطة الوطنية الفلسطينية تعاني من أوضاع لا تتحملها حتى رواسي الجبال، وأنه لا يوجد في الكون كله أي مسؤول يتمنى أو يقبل أن يكون في موقع محمود عباس (أبو مازن) وفي مكانه، لكن ما العمل يا ترى ما دام واقع القضية الفلسطينية هو هذا الواقع.. وما دام أنه لا خيار أمام هذه القيادة الفلسطينية - أعانها الله - وأمام شعبها إلا هذا الخيار الأصعب من «خرط القتاد» كما يقال؟
ربما كثيرون لا يعرفون أن ما تتعرض له السلطة الوطنية الآن من انسداد لأفق عملية السلام، ومن ضغط إسرائيلي بات يتمثل في هذا الذبح اليومي حتى للأطفال، ومن حصارٍ اقتصادي، ومن تآمر داخلي، كانت قد تعرضت له منظمة التحرير الفلسطينية بعد إخراجها من بيروت في عام 1982 بعد صمود بطولي استمر لنحو ثلاثة أشهر صعبة وقاسية، وكان المتآمر، في تلك الفترة، هو هذا النظام السوري لا غيره، ولكن بنسخة الأب وليس بنسخة «الابن»، والهدف كان إزاحة ياسر عرفات (أبو عمار)، ومن كان معه وإلى جانبه من إخوانه، واستبدال هذه المنظمة التي تمكنت من الانتصار على كل المؤامرات وصمدت حتى الآن، بمنظمة وهمية أدواتها «أعوان» المخابرات السورية تكون مجرد أداة في يد حافظ الأسد بالنسبة لمفاوضات عملية السلام التي كانت قد أصبحت على الأبواب بعد قرارات «قمة فاس» الثانية، التي غدت أمرًا واقعًا بعد «مؤتمر مدريد» الشهير الذي على أساسه وأساس قراراته أُبرمت «اتفاقيات أوسلو»، وتم حلُّ وادي عربة الشهير على الجبهة الأردنية.
وهكذا، وفي النهاية، فإنه لا بد من تأكيد أن انهيار السلطة الوطنية - لا سمح الله ولا قدر - إنْ هو حصل، فسيكون أخطر كارثة تحل بالشعب الفلسطيني الذي سيخسر كل إنجازات ثورته المعاصرة، ثورة عام 1965، والذي سيحل به ما حل، ولا يزال يحل، بالشعب السوري.. وهذا في حقيقة الأمر يجب أن يدركه العرب رغم همومهم الكثيرة وانشغالاتهم الموزعة بين سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا.. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها عليهم تحالف روسيا مع إيران.. ونظام بشار الأسد.
لقد بقي الشعب الفلسطيني، وبخاصة في الضفة الغربية، متمسكًا بأرضه، وهو ازداد تمسكًا بهذه الأرض بعد قيام السلطة الوطنية، ولم يبادر إلى الهجرة والنزوح على غرار ما حدث بعد حرب عام 1948 وحرب عام 1967.. لكن ومع ذلك فإنه على العرب، وعلى الأردن خاصة، توقع أن يكون هناك نزوح هائل إذا «انفرطت» هذه السلطة وانفرطت منظمة التحرير، وإذا عمت الفوضى في الأراضي المحتلة وسادت أوضاع أسوأ كثيرًا من الأوضاع السائدة الآن في سوريا وليبيا والعراق! ولهذا فإنه بالإمكان، لمواجهة هذا الاحتمال، اتخاذ خطوة متقدمة واستبدال السلطة الوطنية بحكومة لدولة تحت الاحتلال هي الدولة التي اعترفت بها الأمم المتحدة.