في شهر مايو (أيار) عام 2011 مئات الملايين من الناس كانت تتفرج على نهاية تنظيم القاعدة، أو بالأصح نهاية زعيمها الذي قتل في عملية استخباراتية ماهرة. لفت جثته في غطاء، وربطت حبالها بأثقال، ورميت في قاع بحر ما، حتى لا يعرف أحد قبره. ربما أكلت جثته أسماك القرش، وبموته اعتقد تنتهي رمزيته وتدفن معه «القاعدة» التي أرعبت العالم. لم يبق أحد مهم في التنظيم إلا اعتقل أو قتل، مثل أنور العولقي الأميركي من أصل يمني ومن أخطرهم، قُتل بعد أربعة أشهر.
بالفعل تم التخلص من معظم عقول التنظيم ونجومه. قتل أخطرهم ميدانيًا، الزرقاوي، وكذلك مخطط العمليات العسكرية أبو ليث الليبي، والكيميائي أبو خباب، والمسؤول المالي سعيد المصري، وحتى سائق بن لادن وحارسه وابنه، وامتلأ سجن غوانتانامو الخاص بنزلاء «القاعدة».
لم يقتل ويقبض عليهم، بل زال ما كان يعتقد أنه الدافع وراء الإرهاب، وهو الوجود الأميركي، حيث انسحبت الولايات المتحدة من العراق.
في نظري، هنا الخطأ في تشخيص المشكلة، فالإرهاب لم يكن أشخاصًا ولا ذرائع، بل آيديولوجيا. من الدعاة إلى الإعلاميين، والمدرسين، والمحتسبين، المؤمنين بآيديولوجيا التطرّف والمنخرطين فيه هم أهم من بن لادن والزرقاوي. هؤلاء قادرون على إنتاج قيادات ومنظمات بديلة، بعناوين مختلفة، وفي مناطق جديدة. اخترعوا البغدادي بديلاً لابن لادن، و«داعش» محل «القاعدة»، وسوريا ساحة حرب جديدة، وبديلاً عن أشرطة فيديو بن لادن صعدوا على «تويتر» و«فيسبوك» و«واتساب». صاروا أعظم وأخطر.
هكذا الحرب عادت للمربع الأول، إلا أن الإرهابيين يتميزون عن سابقيهم عددًا ونوعية ونفوذًا. أسقطوا طائرة روسية بعلبة كيلوغرام متفجرات، ونفذوا مجزرة متعددة في باريس. وفرعها في نيجيريا، «بوكو حرام»، عبر الحدود إلى مالي ونفذ هناك جريمة أخرى. «داعش» أيضًا قتل رهينة صينيًا، وهدد الولايات المتحدة بعمليات وشيكة. كل هذا الإرهاب الذي روع العالم نفذ في أقل من شهر.
في رأيي، إن هناك جملة أخطاء في فهم الإرهاب الجديد؛ الأول هو الاعتقاد بأن الإرهاب تنظيم ينهار بمقتل قياداته. والخطأ الثاني التصديق بأن الذريعة المعلنة هي الدافع للإرهاب، بالخلط بينها وبين الحركات التحررية في الماضي، مثل القول إن خروج الأميركيين من العراق ينهي سبب الإرهاب ووجوده. تاريخيًا، «القاعدة» ولدت قبل غزو العراق بست سنوات، وتوسعت أكثر بعد خروجهم. والثالث، الاعتقاد بأن الحل في الرحيل من منطقة الفوضى، مثل فيتنام، سحبت أميركا كل قواتها من العراق، ورفضت الدخول في سوريا. الرابع، التورط في اللعبة الطائفية، بدعم الشيعة أو السنة ضد بعضهم بعضًا. والخطأ الخامس والأهم، هو التهاون مع الفكر المتطرّف الذي هو العلة الرئيسية، ومصدر قوة الإرهاب.
بعد انتحار هتلر ثم حرق جثته، لم يكتفِ المنتصرون في الحرب على النازية برفع العلم على برلين، بل منعوا الفكر النازي من التنفس. حرموا تدريسه، والترويج له، ومنعوا كل واحد له علاقة به من أي نشاط مجتمعي. الإسلام المتطرف الذي نراه منتشرًا هو فاشي أيضًا، يشبه النازية التي تقوم على فكرتي التميز والإلغاء. مثلها التطرّف الإسلامي يقوم على الولاء المطلق لها، والكراهية والعدوانية ضد الآخر سواء كانوا مسلمين أو غيرهم. تريدون القضاء على «القاعدة» و«داعش» و«النصرة»، لاحقوا الآيديولوجيا. من دون ذلك أمامنا مائة عام من الفوضى والإرهاب.
[email protected]
8:2 دقيقه
TT
الأخطاء الخمسة التي أعادت الإرهاب
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة