ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

البث المباشر.. بين بيروت وباريس

كما العالم بأسره، انشغل اللبنانيون بمتابعة العمليات الإرهابية في باريس..
بدا الاهتمام اللبناني بالحدث الفرنسي صدى لما حل في ضاحية بيروت قبل أقل من يوم بعد التفجيرات الانتحارية في برج البراجنة، التي أودت بعشرات الضحايا. صحيح أن الخسارة البشرية في باريس كانت أكبر وأفدح وأكثر خطورة في دلالاتها على مستوى العالم بأسره، لكن ذلك لم يمنع لبنانيين ولبنانيات بل وعربا كثيرين أيضًا من المقارنة في كل شيء، خصوصا في المتابعة الإعلامية.. بدا في التعليقات شيء من الغيرة والغبطة حتى في الموت.
كتبت اللبنانية «تيما» أنه إذا كان مقدرا عليها أن تموت ضحية عمل إرهابي فهي تفضل أن تكون ضحية في باريس وليس في لبنان، لأنها هناك «ممكن لاقي حدا يغطيني بشرشف قبل ما يخطر عباله يصورني بتليفونه وما بتصير صوري وأنا مشوهة على (فيس بوك) وأصنف كضحية بصرف النظر عن هويتي وديانتي».
ليس في هذا التعليق المباشر - ومثله ظهر كثير - أيّ مبالغة ربما، فبلادنا تعج بالأحداث الأمنية والحروب والانفجارات، وهذه الحال دفعت بكل وسائل الإعلام المحلية والعربية نحو منافسة شرسة في التغطية، خصوصا المباشرة. ومع ذلك لا نزال نجد أنفسنا في كل مرة يقع فيها انفجار وموت أمام مشاهد دم وأشلاء وأمام انفلات للهواء، فتحت ستار التغطية المباشرة يطلق العنان لكاميرات لا تتوانى عن انتهاك أجساد البشر جرحى أو موتى أو أشلاء. الهواء المباشر يستمر ساعات طوالا، فكيف سنملأ هذه الساعات؟! لا بأس إذن بإطلاق العنان لمشاعر مواطنين غاضبين لم يحسنوا ضبط احتقانهم وغضبهم فانصبت كلماتهم كراهية ضد آخرين، وكل ذلك ينتقل كالسموم في هوائنا.
نكاد نعجز عن إحصاء المرات التي تنخلع فيها قلوبنا من وباء بات اسمه «البث المباشر»، وهو في الحقيقة لم يعد سوى «فوضى مباشرة» بحيث يترك الهواء لساعات مفتوحا بذريعة مواكبة الحدث الأمني، فنجد مراسلين في صراع مرير كي يقولوا معلومة أو يجروا مقابلة مع ناجين أو يضبطوا صورا دموية قاسية.. المخيب أنه في أحيان كثيرة لا جهد فعليا لضبط كل هذا، فيصبح الهواء التلفزيوني عبقا بكل أنواع الشحن والكراهية والخوف وما يسمى بالتحليل السياسي الفارغ لحدث لا يزال ساخنا.. ما زلنا حتى اليوم نجد من يسأل طفلا فقد أبويه: «وين ماما؟»..
في باريس، قارب عدد الضحايا مائة وخمسين، وكانت كل وسائل الإعلام الفرنسية والعالمية تقريبا في تغطية على مدار اللحظة. وهناك لا محظورات كبرى ولا رقابة أمنية كما في بلادنا، ومع ذلك لم نرَ صور جثث أو أشلاء.
تذكرت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حيث ما زلنا حتى اليوم لم نرَ صورة واحدة لجثة أو لدماء..
ليس مبررا أبدا أن لا نكون قد تعلمنا بعدُ هذا الدرس، بل نحن نعرفه تماما، وكل وسائل الإعلام تعرف واجباتها ومسؤولياتها. فهنا ليس نقص الخبرة، ولا عنصر الضغط والمفاجأة هو ما يوقعنا في فخ ابتذال الهواء المباشر. إنه الخبث والتكاسل ذاك الذي يدفع بالبعض إلى الاستخفاف بحياة الناس ومشاعرهم، وهو أيضًا غياب رادع مهني ومساءلة.
[email protected]