عبد الرحمن الراشد
إعلاميّ ومثقّف سعوديّ، رئيس التحرير الأسبق لصحيفة «الشّرق الأوسط» ومجلة «المجلة» والمدير العام السابق لقناة العربيّة. خريج إعلام الجامعة الأميركية في واشنطن، ومن ضمن الكتاب الدائمين في الصحيفة.
TT

ومقاطعة فلسطين رياضيًا أيضًا!

الفلسطينيون، ممن يسمون «عرب إسرائيل»، غالبيتهم لا تستطيع دخول الدول العربية، وبالطبع يكاد يكون من المستحيل أن تمنح حق العمل فيها. يعامل الفلسطينيون تمامًا مثل الإسرائيليين.. هكذا يكافأون، مع أنهم تمسكوا بأرضهم، وتحملوا لأجيال أذى النظام الإسرائيلي. يحظر على منتجاتهم أن تباع في الأسواق العربية، في حين أن اليهود الإسرائيليين لهم حظ أفضل في دخول الدول العربية، إن كانوا يحملون جوازات أوروبية أو أميركية. ولا يقل الأمر سوءًا عن معاملة الحكومات العربية لفلسطينيي الأراضي المحتلة؛ أهل الضفة الغربية وقطاع غزة. هؤلاء ممنوعون من الخروج من قبل سلطات إسرائيل، وممنوعون من الدخول من قبل معظم حكومات الدول العربية، إلا إن كانوا يحملون وثائق أردنية أو مصرية، ومحرم على زيتونهم وبرتقالهم أن يباع إلا عن طريق وسيط أردني أو مصري، مما يجعل بضاعتهم أغلى ثمنًا! أما في الأسواق الأوروبية فيعطى الفلسطينيون شيئا من الأفضلية.
وفوق هذا، تحرم معظم الحكومات العربية على مواطنيها زيارة فلسطينيي الضفة وغزة، ودعم سياحتهم، أو الاستفادة من خدماتهم. وحديثًا جدًا، رفض فريق سعودي أن يلعب مباراته المشروطة في الضفة الغربية، لأن ذلك أيضًا ممنوع.. يعتبرونه تعاملاً مع إسرائيل، واعترافًا بسلطتها!
ولهذه المعاملة الغريبة الصادمة مبررات قانونية؛ إذ إن قرارات الجامعة العربية تلزم الحكومات العربية بعدم التعاطي مع إسرائيل، وكل ما يقع تحت يدها. وللجامعة العربية قرارات على مدى ستين عامًا أضرت بالفلسطينيين وقضيتهم، وفشلت فشلاً ذريعًا في أن تخدش وجود إسرائيل كدولة، أو كنظام احتلال. كل ما فعلته قراراتها أنها آذت الفلسطينيين بمقدار يوازي الأذى الإسرائيلي للفلسطينيين، وأحيانا يفوقه. نجحت القرارات العربية في إفقار الفلسطينيين، ومحاصرتهم، وتركتهم يعيشون مسجونين في مناطقهم المحتلة، أو في مخيمات لبنان وسوريا والأردن، ويعيشون على القليل مما تقدمه المنظمات الدولية، كل يوم بيومه.
والأمر مختلف لفلسطينيي إسرائيل؛ حيث إن معيشتهم ربما أفضل، لكن مقاطعة العرب لهم لعشرات السنين جعلتهم هوية أقرب لإسرائيل الدولة والنظام والشعب.
ولو أنني لا أعرف من عمل ويعمل في الجامعة العربية، وتاريخ القرارات، لجزمت أن هذه المؤسسة تدار بمؤامرة من تل أبيب، فما فعلته الجامعة العربية بالفلسطينيين يرقى إلى جرائم إسرائيل؛ من حرمان وحصار وأذى، لكن نحن نعرف أن الطريق إلى جهنم معبدة بالنيات الحسنة. لقد فشلت فلسفة الجامعة العربية في مفهوم المقاطعة الهادف لمحاصرة المحتل، وثبت أنها كانت خير عون لإسرائيل.. سهلت مهمة الاحتلال بتحريم التعامل مع الفلسطينيين في الداخل. وزار القدس، ومساجدها وكنائسها، من يهود العالم أكثر ممن زارها من العرب، لأنهم ممنوعون من حكوماتهم العربية! ولم يعد للفلسطينيين من أمل، لهم ولأبنائهم، في حل سياسي أو عسكري، ماتت فلسطين بالنسيان والحرمان، وليس كله بالسلاح والاحتلال. وبرهنت السنين، وما فعله إخوتهم العرب، على أن القضية الفلسطينية ليست إلا مجرد كرة قدم يلعبون بها لأغراضهم. وحتى كرة القدم الحقيقية ممنوع عليهم أن يلعبوها على أرضهم، وإسرائيل ليست من تمنعهم، بل العرب يعتبرونها تطبيعًا مع إسرائيل.
تأملوا هذا المشهد الغريب جدًا: ممنوع الشراء منهم، أو بيعهم، أو زيارتهم، أو استقبالهم، أو الصلاة في مساجدهم، أو اللعب معهم؛ أعني الفلسطينيين! لا بد أن تكون الجامعة العربية مصابة بالصمم والعمى، حتى إنها لا تميز بين الضحية والجلاد، وبين المحتل والمحتلة أرضه، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين!
حان الوقت لإعادة النظر في كل مفهوم المعاملات مع فلسطين وإسرائيل، ولا بد من وقف هذا العبث السياسي الذي أسس من قبل مجموعة من السياسيين العرب السذج، ممن ظنوا، قبل نصف قرن، أن الإسرائيليين سيحزمون حقائبهم ويعودون إلى نيويورك وسان بطرس ولندن، بعد أن تنتهي الإجازات. أفكار تمسك بها مجموعة من القوميين المتعصبين، الذين لا يملكون من أدوات الحرب سوى البلاغة الأدبية، يزايد بعضهم على بعض في مجالس مقاهي الشاي، وتدخين «الأرجيلة»، في وقت يدفع فيه الثمن كل يوم خمسة ملايين فلسطيني، محاصرين داخل أرضهم المحاصرة مرتين؛ من العرب ومن الإسرائيليين.

[email protected]