نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

المسجد والمدينة

حقق السيد جون كيري إنجازه الأول في استثماره البائس على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وهو إنجاز غاية في التواضع، ولا ضمان من أن يتحول إلى عكسه في أيام أو أسابيع أو شهور، وإنجاز السيد كيري الذي زفّه كبشرى يتلخص في تركيب الكاميرات وبقاء الوضع على حاله في المسجد الأقصى، وقد بادر نتنياهو إلى تقديم تفسير لما حدث، مشيرًا إلى أن الكاميرات هي في مصلحة إسرائيل، ولكي يظهر بمظهر المنتصر فقد جاهر بفصل المسجد الأقصى كقضية، عن مدينة القدس التي هي القضية، ووصف المكان، قبل أن يجف حبر التفاهمات، بجبل الهيكل الذي ستقوم إسرائيل برعاية صلاة المسلمين فيه والحفاظ على أمن الزوار غير المسلمين، إضافة إلى إجراءات أخرى مثل سحب الإقامات الدائمة التي يتمتع بها آلاف المقدسيين المقيمين داخل المدينة وخارجها، وكأنه يقول صلوا في المسجد الأقصى حتى إشعار آخر، أما باقي المدينة فلا شأن لأحد غيرنا به.
المسجد الأقصى الذي تنطلق منه عادة الهبات والانتفاضات هو أحد العناوين الفلسطينية للمدينة المقدسة، وهو عنوان جاذب لكل المسلمين في كل القارات، وهذا المسجد التاريخي يقع على بعد أمتار من كنيسة القيامة وكنيسة المهد والحرم الإبراهيمي الشريف، بحيث يشكل هذا المجمع الديني التاريخي وجها مهما وقويا من وجوه المدينة التي يراها الفلسطينيون عاصمة لهم ومن دونها لن تقوم لهم دولة حقيقية تترابط تاريخيا وجغرافيا وحتى اجتماعيا، وهذا هو سر القدس بالنسبة للفلسطينيين.
حين تواصل إسرائيل سحب الإقامات والتضييق على حياة المقيمين على أرض القدس بغية تفريغها مع الزمن، فإن مئات الألوف من الفلسطينيين المقدسيين المنتشرين على أرض فلسطين وفي الجوار العربي والعالم، سيفقدون جذرهم وانتماءهم ويتحولون إلى أعداد، بعضها مقيم تحت خطر الإبعاد في القدس، والبعض الآخر لاجئ في المدن المحيطة بها، والبعض الثالث في المنافي القريبة والبعيدة ولم يبقَ لديه في المدينة المقدسة سوى الذكريات.
وعلى أهمية حكاية الأقصى والمهد والحرم الإبراهيمي الشريف في تراثنا ومعتقداتنا وتقاليدنا وحياتنا، إلا أن المدينة التي يصرّ الإسرائيليون على إلغاء الوجود الفلسطيني فيها، تظل مفصلاً وجملة عصبية مكشوفة تهيجها هبة ريح وتحولها إلى مفاعل نشط لإنتاج الأزمات والثورات والانتفاضات، ذلك أن الصلاة في الأماكن الدينية دون شعور المصلين بملكيتهم للمكان وامتلاكهم للحرية والسيادة والاستقلال لن تكفيهم، ولن تمنعهم عن مواصلة العمل من أجل التمتع بالدين والدولة في آن.
هذه هي كلمة سر القدس التي يحتاج السيد كيري إلى أن يعرفها ويعيها، وإذا كان نجاح الكاميرات كما وصفها أشقاؤنا الأعزاء في الأردن، بأنها خطوة في الاتجاه الصحيح، فإن نتنياهو سيعمل على جعلها الخطوة الأخيرة، وهذا ما لن يُسمح له بفرضه، أي فصل الانتماء الديني عن الوطني، فالاثنان متكاملان متداخلان، وهذه الحقيقة الغائبة عن مخططات نتنياهو هي الأعمق في وجدان الفلسطينيين والعرب، وهي ما ينبغي أن تكون عنوان سياستهم.