رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الحملات المتبادلة بين المشنوق ونصر الله

قبل نحو عامين ظهرت إشاراتٌ مزدوجة من جانب نصر الله ومن جانب الرئيس سعد الحريري، إلى إمكان العودة لسياسة الحكومات الائتلافية بين الطرفين. وقتَها لمّح الحريري إلى استعداده لذلك على باب المحكمة الدولية بلاهاي التي بدأ انعقادها لمحاكمة قَتَلة الرئيس رفيق الحريري بعد طول انتظار. ومن جانب حزب الله وعون (الذي أجرى معه الحريري محادثات سرية طويلة) كانت هناك علائم على إرادة التخلّي عن حكومة نجيب ميقاتي التي انفردوا بتشكيلها مع الرئيس الأسد، وشاركهم فيها الرئيس بري، والزعيم وليد جنبلاط، والرئيس ميشال سليمان، ودار نقاشٌ عسير داخل تيار المستقبل في إمكان ذلك وفي جدواه. فقد كان الحزب وحلفاؤه هم الذين أسقطوا حكومة الحريري وجاءوا بميقاتي، وفي ظل الحكومة الجديدة فعلوا وتركوا أمورًا وشؤونًا لم تشهدها البلاد من قبل. وقد ظلّت الفتنة مشتعلةً في طرابلس رغم أنّ ميقاتي منها، وما أمكنه إقناع الحزب والأسد بإيقاف ذلك الخراب. وفي ظل تلك الحكومة العتيدة استمرت الاغتيالات أو جرت العودة إليها، فاغتيل اللواء وسام الحسن، والوزير الدكتور محمد شطح. وفي ظل تلك الحكومة الماجدة أيضًا اندفع نصر الله لمساعدة الأسد في الحرب على الشعب السوري، فغزا بلدة القصير السورية، وقال إنه لم يفعل ذلك إلاّ لمقاتلة التكفيريين الذين انتهكوا مقامات ومزارات أهل البيت، والقصير بلدةٌ سنيةٌ لا مقامات لأهل البيت فيها. وبنتيجة تلك الغزوة الميمونة للقصير وما حولها، لجأ عشرات الآلاف من السوريين المساكين إلى بلدة عرسال اللبنانية، وعاد الحزب للتهديد بغزوها بدورها لتطهيرها من الإرهابيين! فأي خيرٍ يُرجى من تشكيل حكومةٍ مع الحزب، وقد فشلت في التجربة ثلاث حكوماتٍ من قبل؟!
أما أنصار تشكيل الحكومة الائتلافية في تيار الحريري، فإنهم وجدوا لها معاذير ومسوِّغات. وأولها الضغوط الهائلة التي يتعرض لها شبان المسلمين من الجيش والقوى الأمنية و«سرايا المقاومة» التي نشرها الحزب في مدنهم وبلداتهم، دونما قدرةٍ ما دمنا خارج الحكومة على الضبط والمساندة. ثم ما أنتجته هذه الضغوط الفائقة القسوة في أوساط الشبان، والتي أفضت لأول مرةٍ إلى ظهور انتحاريين في أوساطنا ولا ندري كيف نتعاطى مع هذا الوارد الهائل ونحن خارج الحكومة. لقد بلغ التوتر بين السنة والشيعة ذروةً تُهدِّد بحربٍ أهلية في مناطق التماسّ والاختلاط وقد تكررت حوادث على هذه الشاكلة بعد تدخل الحزب في الحرب على الشعب السوري. فلا بد من تهدئة الأجواء، والتحدث إلى الحزب، وإلى الطائفة الشيعية عن كثب مهما كلّف ذلك. وإلى هذا كلّه؛ فإنّ مدة رئيس الجمهورية قاربت على الانتهاء، والتفاهُمُ التمهيدي على الحكومة، يمكن أن يؤدي إلى تفاهُم أكبر بشأن انتخاب رئيسٍ جديدٍ، بدلاً من أن يصيبنا وأصاب المسيحيين عشية انتخاب لحود والتمديد له أيام السوريين، وما أصاب بيروت من غزوٍ عشية انتخاب الرئيس سليمان. وأولاً وأخيرًا فقد يمكن لحكومةٍ بين أطرافها تفاهمات إنقاذ طرابلس وإنقاذ عرسال من نيران الفتنة والغزو.
على أي حال، انتصرت وجهة نظر الإيجاب والتقارب والتهدئة، ومضت شهورٌ من المجادلات والمساومات من أجل التشكيل مع عون بالذات، لأنه كان يريد الوزارات التي منحه إياها الحزب، ومنحت له في حكومتين سابقتين، فأغنته وأسعدتْه، وأمّنت مستقبل أصهاره وتياره. إنما والحق يقال، إن تيار المستقبل حصل في حكومة الائتلاف على وزارتين مهمتين تولاهما صقران من صقور المستقبل: الداخلية وقد تولاّها نهاد المشنوق، والعدل وقد تولاها اللواء أشرف ريفي. كما أن هناك مناصب رئيسية ومديريات شاغرة منذ سنين وسنين جرى ملءُ شواغرها بأُناسٍ أكفاء غالبًا.
وزير الداخلية نهاد المشنوق في خطابه في الذكرى الثالثة لاغتيال اللواء وسام الحسن، ذكر للمرة الثانية في عامين على التوالي، ما هي الأمور التي كان مرجوًا أن تتحقّق، ولم يحصل ذلك.
سمّى الرئيس الحريري الحكومة المُراد تشكيلها قبل عامين حكومة ربط نزاع. فهو لا يوافق على استمرار فلتان سلاح الحزب، وهو لا يوافقُ على تدخل الحزب في سوريا. وهكذا فما كان مُرادًا ولا مقدورًا عليه تحقيق شيء في هذين الموضوعين الرئيسيين. لكنّ المشنوق ذكر الأمور التي كان من الممكن تحقيقها لخدمة المواطنين والبلاد ولم تتحقق لرفض الحزب وحليفه عون لذلك. فقد مضى أكثر من عامٍ ونصفٍ دون أن يستطيع مجلس النواب الاجتماع لانتخاب رئيس لأن الحزب تضامن مع عون وقاطع معه مجلس النواب وقال إنه لن يعودَ إليه إلاّ إذا انتُخب حليفه للرئاسة أو يرشح حليفه من يراه أهلاً لذلك! وما لم يتحقق أيضًا أمرٌ خطيرٌ آخر أو أنه خطيرٌ لأنه تحقق (!) فقد عطّل عون والحزب الحكومة ذاتَها لأن عون لم يصر رئيسًا، ولأنه أراد أن يضغط بهذه الطريقة لتعين صهره قائدًا للجيش.
بيد أنّ الأمر الحسّاس الثالث أو الرابع والذي ما توقف فقط، بل فشل؛ فهو الخطة الأمنية، لضبط الأمور في طرابلس والبقاع، وسائر المحافظات. لقد تفاوض المشنوق مع الحزب قرابة الأشهر الستة من أجل إنفاذ الخطة بشكلٍ مقبولٍ ومتوازن في الشمال، وفي مناطق سيطرة الحزب. وقد نُفّذ الجزء الشمالي وأَمِنت طرابلس، وإن اعتبر الجيش ومخابراته أنّ كلَّ مَنْ له عينان ومعه تليفون إرهابي أشِر! أمّا في مناطق سيطرة الحزب ببعلبك وشرق لبنان؛ فليس فقط أنّ شيئًا لم يحدث. بل إنّ الوضع الأمني ساء جدًا بسبب القتل العشوائي والخطف والتنكيل وسرقة السيارات وصراع المسلحين في شوارع بعلبك وبريتال، وحتى في شوارع ضاحية بيروت.
وما لم يذكره المشنوق هذه المرة: سرايا المقاومة أو الفتنة، وهي مجموعات من الشبان نشرها الحزب في المدن والبلدات السنية بسلاحها وبمرتبات، لإزعاج الناس واضطهادهم والسيطرة على حياتهم، واتهام من يرفع رأسه بالإرهاب، تحت أنظار الجيش وقوى الأمن!
المشنوق قال للمرة الثانية هذا العام، إنّ الحال - وسط هذه الظواهر والمظاهر - «مش ماشي»، وتابع إنه ينبغي التفكير في فائدة الاستمرار في الحكومة، وفي الحوار مع الحزب!
في اليوم التالي ردَّ نصر الله، وقال إن القبض على المرتكبين ليس مهمة الحزب، بل قوى الأمن (!)، ولا داعي للتمنُّن، فإذا أرادوا مغادرة الحكومة والحوار فليفعلوا، ولن يترجّاهم أحد من أجل البقاء!
الرجل يفكر على مستوى المنطقة والعالم. فما هذه الصغائر التي يريد المشنوق شغله بها؟! فبالأمس التقى وفدًا حوثيًا ووعده باستمرار الدعم. وأولَ من أمس احتفى بالتدخل الروسي في سوريا، للمساعدة ضد التكفيريين الذين قال نصر الله مرةً إنه تأخر كثيرًا في مجاهدتهم! صدق المتنبي: يرضى القتيل وليس يرضى القاتل!