صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

الروس يعودون للخيار «الغورباتشوفي» لإنقاذ الأسد!

حقن «الاحتلال» الروسي لسوريا بشار الأسد بجرعة من الشجاعة جعلته ينتقل من وضعية الانهيار المعنوي والنفسي ومن الإحساس بالانكسار والهزيمة إلى حالة من الهجوم المعاكس الذي جعله يهدد بالدمار الشامل للمنطقة إنْ لم ينجح التحالف الذي يصفه أعوان حسن نصر الله بأنه تحالف «4+1» الذي يضم بغداد وطهران ودمشق وحزب الله بقيادة روسيا الاتحادية، وجعله، أي الرئيس السوري، يعتبر الحديث في الشؤون السياسية السورية وعن المسؤولين السوريين تدخلاً في شؤون «بلاده»!! الداخلية.
منذ فترة بعيدة، لم يشرب بشار الأسد «حليب السباع» على هذا النحو، والمعروف أنه في آخر ظهور خطابي له بدا منهارًا ومستسلمًا لهزيمة منكرة عكستها كل كلمة في ذلك الخطاب، حيث اعترف وللمرة الأولى منذ نحو خمسة أعوام، بأن جيشه لم يعد يستطيع الدفاع عن كل الأراضي السورية، وأنه يعاني من شح في القوى البشرية، وأنه سيضطر للتخلي عن بعض مواقعه الحالية لحماية المواقع الأكثر أهمية.. والمقصود هنا هو المناطق التي يجري الحديث عن أنها ستصبح الدويلة المذهبية البائسة التي يجري الحديث عنها.
ولعل ما يشير إلى أن هذا النظام قد سلَّم مسؤولية سوريا «القُطر العربي السوري» للمحتلين الروس، أن وزير خارجية بشار الأسد، الذي تحوّل نظامه إلى ما يشبه دولة «فيشي» الفرنسية بزعامة الجنرال بيتان الذي فتح ذراعيه وطأطأ رأسه للمحتلين النازيين، قد ذهبت به نشوة الاستسلام للغزو الروسي إلى القول إن «وجود القوات الروسية سوف يغير موازين القوى، وإنه أوجد وضعية غير الوضعية السابقة».
لكن وعلى الرغم من أنَّ نظام بشار الأسد بعدما بدأت طائرات «سوخوي» الروسية تقصف بقنابلها وصواريخها المدمرة الكثير من مواقع المعارضة المعتدلة في حماه وحمص وإدلب وبعض ضواحي دمشق، بات يقف على رؤوس أصابع قدميه، فإن ما يجري وراء «الكواليس» يشير إلى أن مصير هذا النظام ومصير رئيسه قد وُضع فعلاً على طاولة المساومات الدولية، والدليل هو قمة باريس الرباعية الأخيرة التي ضمّت الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
كانت هناك قناعة أميركية في عهد جورج بوش الابن بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير (شباط) عام 2005، تلك الجريمة النكراء التي أُتبِعتْ بسلسلة الاغتيالات التي طالت عددًا كبيرًا من القيادات اللبنانية السياسية والإعلامية المؤثرة والمرموقة، بضرورة إطاحة نظام بشار الأسد وضرورة التعجيل بتغييره بعدما أصبح نظامًا «إرهابيًا» مارقًا لا بد من تخليص شعب سوريا والمنطقة منه في أقرب فرصة ممكنة.
لقد طُرحت في تلك الفترة المبكرة «سيناريوهات» كثيرة من بينها «سيناريو» غزو العراق في عام 2003 والتخلص من صدام حسين ونظامه، و«سيناريو» ميخائيل غورباتشوف وإصلاحاته الـ«بيريسترويكا» التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار الشيوعية العالمية، وهكذا، ولأن الخيار الأول تم استبعاده نهائيًا، وخاصة بعد عودة الديمقراطيين إلى الحكم، فإن الخيار الثاني الذي تم العمل عليه لفترة طويلة قد تم استبعاده هو أيضًا لأنه ثبت أنَّ بشار الأسد ليس هو صاحب القرار في سوريا، وأنه حتى وإن هو أظهر بعض الميول الإصلاحية فإنه غير قادر على المضي فيها أو تنفيذ ولو بعضها؛ لأن القرار في هذا البلد الذي كان على شفا الاضطراب ليس قراره، وإنما قرار قيادة سرية غير معروفة.
لقد استبعد الأميركيون «السيناريو» العراقي نهائيًا لأنه انتهى إلى هذه التجربة المريرة التي تعيشها بلاد الرافدين، ولأنهم في عهد هذه الإدارة المترددة وغير الحاسمة لا يريدون إعادة تجربة أفغانستان، ولا التجربة العراقية بالطبع، ولذلك ولأن رهانهم على «الإخوان المسلمين» وعلى بعض رموز نظام بشار الأسد ورموز نظام والده حافظ الأسد قد فشل أيضًا فشلاً ذريعًا، فإنهم اتجهوا للعمل على اختراق هذا النظام من الداخل والقيام بانقلاب عسكري يشبه أحد الانقلابات العسكرية التي بقيت تضرب سوريا منذ عام 1949 وحتى عام 1970. لكن بعد اغتيال غازي كنعان، وبعد الإخفاق في تلميع رفعت الأسد، اتجهت الأنظار إلى حكمت الشهابي وإلى وزير الدفاع الأسبق علي حبيب.. ثم وبعد فشل كل هذه المحاولات اتجهت الأنظار إلى آصف شوكت الذي أصبح نجمًا لامعًا، والذي تم التخلص منه هو أيضًا، خلافًا لادّعاءات بعض أطراف المعارضة، في ذلك الانفجار الغامض في 18 يوليو (تموز) عام 2012 الذي أودى بحياة كل أعضاء ما سمي «الخلية الأمنية»، وهم بالإضافة إلى آصف شوكت كلُّ من: داود راجحة، ومحمد الشعار، وحسن تركماني، وهشام بختيار، ومحمد سعيد بخيتان.. ويبدو أنَّ رستم غزالة قد مضى هو بدوره لاحقًا على هذا الطريق نفسه.
والواضح، بعد سلسلة هذه الاغتيالات التي لم توفر حتى الآن من الرموز الأمنية الفاعلة والمؤثرة إلَّا رجل المهمات الصعبة الحالي الجنرال علي المملوك، أن الإيرانيين قد اضطروا لأخذ أمْنِ الرئيس بشار الأسد وأمْنِ نظامه بأيديهم، وذلك إلى حدَّ أنهم قد أخرجوا حتى شقيقه ماهر الأسد من هذه الدائرة وأبعدوه عن هذه المسؤولية نهائيًا، وهذا في حقيقة الأمر قد جعل مهمة اختراق هذا النظام إن هي ليست مستحيلة فإنها في غاية الصعوبة، وهذا ينطبق أيضًا على إمكانية القيام بانقلاب عسكري، حيث غدت الاستخبارات الإيرانية تحتل كل المواقع العسكرية الحساسة، وحتى على مستوى قيادات الكتائب والألوية والفِرَق، وعلى مستوى وزارة الدفاع ووزارة الداخلية، وكل الأجهزة الأمنية.
ربما أن أصحاب فكرة ضرورة اختراق نظام بشار الأسد من داخله ما زالوا يراهنون على أحد الضباط العلويين الذين سئموا هذا النظام وسئموا التدخل الإيراني.. وأيضًا التدخل الروسي السافر في شؤون بلدهم، والذين اقتنعوا في النهاية بأنَّ آخر الدواء الكي، وأنه لا بد بعدما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، من مثل هذا الكي، وبالتعاون مع الروس، إذا كانت هناك إمكانية فعلية لمثل هذا التعاون الذي يبدو أنه ليس مستبعدًا بصورة قطعية.
لكنّ الواضح أن الروس بعد غزوهم العسكري لسوريا باتوا يفضّلون العودة إلى المربع الأول وإلى الخيار الـ«غورباتشوفي» آنف الذكر، فهم طرحوا، وما زالوا يطرحون، في اتصالاتهم مع الدول العربية المعنية ومع إدارة الرئيس باراك أوباما، وتحديدًا مع وزير خارجيته جون كيري، أن بإمكانهم المراهنة على بشار الأسد ونظامه لإنجاح المرحلة الانتقالية وفقًا لـ«جنيف1»، وأن البداية ستكون إجراء انتخابات برلمانية «حرة ونزيهة» وبضمانات دولية، وحقيقة أنه يمكن استبعاد أي قبولٍ بهذه «المناورة» المكشوفة من قبل الجهات آنفة الذكر، وخاصة بعد كل هذا التدخل العسكري الروسي السافر في الشؤون الداخلية السورية. إنها مناورة مكشوفة بالفعل.. ويقينًا، إنْ استطاع الروس تمرير هذه «المناورة» على الولايات المتحدة فإن هذه المنطقة ستشهد خيارات صعبة بالفعل.. وإن مأساة الانقسام الذي يهدد الآن العراق وسوريا سيهدد لاحقًا عددًا من الدول العربية المستهدفة من قبل إيران ومن قبل حلف بغداد الجديد، وحيث قال بشار الأسد، بعدما شرب «حليب السباع» بعد رؤيته للقاذفات الروسية الاستراتيجية تقصف المدن والقرى السورية: «إن فشل هذا الحلف، أي الروسي - الإيراني - العراقي - السوري، سيعني الدمار الشامل لهذه المنطقة كلها!». إنَّ هذا يجب ألَّا يعني رفع الأيْدي والتسليم بالأمر الواقع فالشعب السوري الذي قاتل وقاوم هذا النظام المتهاوي فعلاً في ظروف أصعب كثيرًا من هذه الظروف المستجدة قادرٌ على مواصلة المقاومة ومواجهة الغزو الروسي لبلاده، وهنا فإنه على العرب أصحاب المواقف الشجاعة، أن يتذكّروا أن هناك مثلاً عربيًا يقول: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض».