أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

سوريا تقسم أوروبا

لو اكتفى السياسيون في المجر وبولندا وسلوفاكيا وجمهورية التشيك برفض دخول اللاجئين لأسباب اقتصادية، أو عزموا تطبيق أنظمة صارمة لتنظيم تدفقهم، لقلنا إن ذلك من حقهم، وليس على المحسن من سبيل. إنما إطلاق التصريحات العنصرية ضد الهاربين من الحرب والفقر واشتراط معتقد ديني للمقبولين في هذا الوقت العصيب فهو بمثابة عار لحق بأوروبا كلها، وليس له سوى تفسير واحد؛ أن ما فاضت به تصريحاتهم القاسية هو ما يعتمل في صدورهم، ودفعت به قوافل اللاجئين إلى مقدمة المنصات الإعلامية.
رفض هذه الدول استقبال اللاجئين من سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها بسبب ديانتهم المسلمة أو قوميتهم وإساءة معاملتهم على حدودها أمر صادم من دول عانت إلى وقت قريب من التجويع والتشرد والاضطهاد من أنظمة سياسية شريرة، وأعاد إلى الواجهة من جديد فكرة تقسيم أوروبا إلى شرقية متخلفة لا تزال تعاني من آثار الفكر الشيوعي، وغربية متحضرة تحمل قيما إنسانية رفيعة.
الأقليات المسلمة في شرق أوروبا باختلاف نسبتهم في كل دولة، هم جزء من المكون الاجتماعي منذ أكثر من 400 عام، وثقافتهم الإسلامية ليست غريبة على سكان المنطقة التي تتنوع فيها الأعراق والديانات والألسن بشكل لا مثيل له في العالم. ومع أن فترة الحكم الشيوعي التي دامت قرابة أربعة عقود كانت فترة تضييق على المسلمين هناك لكنها لم تنتزع منهم هويتهم الوطنية وإن هجّرت الكثير منهم.
في دولة متمدنة كالنمسا تعتمد الدولة على العنصر الأجنبي في زيادة عدد السكان، بعد ظاهرة انخفاض أعداد المواليد فيما يسمى «الطاعون الأبيض». ولأن النمسا غير مصابة بذعر التنوع الثقافي فهي تبدي ترحيبها بالقادمين الذين يمثل فيهم السوريون 40 في المائة، يضمون 12 في المائة سيدات حوامل من نسبة النساء العابرات، وتشجعهم على الانخراط في المجتمع في ظل قانون صارم يمنح حقوقا متساوية ويحمي السلم الاجتماعي من التطرف أو العادات البالية التي تناهض حقوق الإنسان. وهي في هذا الموقف الإيجابي تتبع الزعيمة الأوروبية أنجيلا ميركل التي تمثل حزبها السياسي المسيحي، وتدير هذه الأزمة بذكاء وبراغماتية شديدة، فهي تسعى لتعزيز دور ألمانيا في قيادة أوروبا «أخلاقيا»، وهو دور لا يقل تأثيرا عن دورها الاقتصادي والسياسي، بعد أن كانت برلين رمزا للديكتاتورية والعنصرية المقيتة حتى وقت ليس ببعيد. إنه سلوك الكبار، فالصغار لا يملكون أصلا ما يقدمونه لغيرهم، مع التذكير أننا نتحدث هنا عن 160 ألف لاجئ، أي نحو عشرة في المائة ممن يستضيفهم بلد صغير قليل الموارد مثل لبنان، وهؤلاء سيوفرون قوى عاملة يمكن استيعابها في دولة مثل ألمانيا تعتبر واحدة من أكبر اقتصاديات العالم، والأفضل في مقاييس الحياة الكريمة من دعم حكومي مباشر وخدمات صحية وتعليمية، وتخطط المستشارة ميركل أن تصنع من الشباب القادمين قيمة مضافة واستثمارا طويل الأمد.
الإعلام الاجتماعي الذي ضخم القضية، عكس تأثيره حتى على الإعلام الرصين الذي هلل للموقف الألماني والفرنسي والبريطاني جاحدا الموقف الخليجي الذي بادر منذ اندلاع الثورة السورية إلى جعل المواطن السوري منطلقا لمواقفه السياسية. وزارة الخارجية السعودية اضطرت لإطلاق تصريح يوضح حجم ما قدمته السعودية للسوريين خلال الثلاث سنوات الماضية، ردا على التقارير الإعلامية التي ضللت الرأي العام، وكشفت الوزارة أن السعودية استقبلت مليونين ونصف المليون سوري ومنحتهم حرية الحركة والعمل وخدمة التعليم والصحة، عدا تقديم المساعدات المالية واللوجستية لدعم السوريين في مخيمات لبنان والأردن، إضافة إلى مليون يمني لجأوا للسعودية بعد اندلاع الحرب في اليمن.
هناك أمر يخفى على القائمين على كتابة التقارير الصحافية في الغرب، وهو أن السعودية لا تقدم مساعداتها الإنسانية للسوريين واليمنيين والفلسطينيين تنفيذا لواجبها الدولي الذي يحتم مساهمتها في التخفيف من الأزمات فحسب، بل من منطلق ديني وعروبي بشكل خاص، وهذا الأمر عرْفٌ وتقليد ثقافي موروث، وهي ترى أن العمل خلاف ذلك قلة في المروءة وإساءة للذات، وعدم الإعلان الدوري لهذه المساعدات يدخل ضمن هذه الثقافة التي تعيب التباهي بتقديم العون للآخرين وتعتبر ذلك من العمل الخيري الذي يتبعه أذى. والذين يدللون بهذا العمل على أن السعودية اختارت من الوافدين من يوافقونها سياسيا أو مذهبيا وبالتالي من حق الأوروبيين أن يشترطوا بدورهم لاجئين مسيحيين، هم في الحقيقة غارقون في استنتاجات غير صحيحة. الموقف السعودي لم يقم بفرز السوريين واليمنيين على أي أساس، واعتمد على موروث الاستجابة للمستجير ونصرة المظلوم وإكرام الضيف، تماما مثلما الديمقراطية وحقوق الإنسان مبادئ أساسية في أوروبا، وبالتالي هذه الدول الأوروبية الأربع التي رفضت دخول اللاجئين أو اشترطت ديانتهم هي من خالفت قيمها ووشمت نفسها بعار العنصرية التي تدعي أنها تحاربها.
بشار الأسد نجح نجاحا ساحقا في جعل الشعب السوري مشردا في بقاع الأرض يستجدي الحياة على عتبات محطات القطار ونقاط العبور، أسوأ بكثير مما ارتكبته إسرائيل في حق الفلسطينيين. خمسة ملايين لاجئ سوري هجروا أرضهم فارين من قمعه وبطشه وأطماعه، لم يستقبل أصدقاؤه في روسيا سوى 400 لاجئ وعلى مضض، لم يستطع بعضهم مباشرة دراسة أبنائه إلا مؤخرا، لأن الدور الروسي مقيد بدعم الأسد عسكريا، وكذلك فعل الصينيون، أما الإيرانيون فكان لهم موقف أشد معاكسة للموقف الخليجي والأوروبي، حيث استقبلوا مئات الأسر من اللاجئين الأفغان والعراقيين ثم أرسلوا أبناءها إلى سوريا للقتال بجانب الأسد مقابل حياة واستقرار أهلهم.
في الأزمات تنكشف النوايا، ويظهر الصدق، وتبطل الادعاءات، ويبقى الواقع هو المتحدث الرسمي باسم المنكوبين.

[email protected]