إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

وسط الارتباك العربي.. أما حان وقت النقد الذاتي؟

دعونا ننحّي المكابرة جانبًا ونصارح أنفسنا، ولو مرة واحدة، حول أسباب إدماننا ردّات الفعل وطمأنة الذات، بينما يسجّل غيرنا منجزات سياسية حقيقية، حتى باعتراف خصومهم.
أزعم أنه لو طُرح سؤالٌ صريحٌ بهذا الاتجاه، فلن يكون الجواب مريحًا ألبتة.
الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، بلا شك، كان مفصلاً مهمًا كشف جوانب تقصيرنا.. ولا أقول عجزنا. أيضًا كان تطوّرًا مهمًا، ولو تأخر بعض الشيء، «التفهم» الأميركي للحساسيات التركية إزاء الأحلام القومية الكردية. وطبعًا، هناك الإخفاق المزمن مع الموضوع الفلسطيني الذي ظل لعقود دليلاً قاطعًا على فشلنا بوعي حقيقة العلاقة بين الغرب وإسرائيل كمفهوم وككيان وكثقافة سياسية.
ولنختتم حالات التقصير بالإقرار بسوء إدارتنا التعايش داخل الكيانات التي نعيش فيها. إذ إننا نتصرّف وكأننا إما نجهل تعدّد مكوّناتها، أو نتوهّم أن الطمس القهري للتعدّد هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن «الوحدة الوطنية» في وجه «مؤامرات أعداء الأمة».
الحقيقة، أننا أخطأنا طويلاً وما زلنا نخطئ، لكن الفارق هذه المرة أن التحدّيات الوجودية ما عادت تسمح لنا بالاطمئنان لوجود «حيّز راحة» قاتل. باعتقادي، نحن الآن نعيش ظروفًا لا تماثلها إلا «مرحلة كامب ديفيد» عندما كسر الرئيس المصري الأسبق أنور السادات علنًا كل ما كان يُعد محظورات سياسية للشرعية السياسية العربية، وذهب إلى حد الاعتراف بإسرائيل والخطابة في برلمانها. بل ربما نحن اليوم في مرحلة أكثر حسمًا وأخطر تحديات من تلك المرحلة.
ولنبدأ بالملف الإسرائيلي - الفلسطيني، حيث تحاول الإدارة الأميركية استرضاء بنيامين نتنياهو بعدما قاد حملة الاعتراض على الاتفاق النووي مع إيران. ومن واقع تجربتنا الطويلة كعرب مع مثل هذه المحاولات فإن الطرف الأضعف الذي يدفع الثمن دائمًا هو الطرف العربي، وبالتحديد، الفلسطيني. وإذا ما تذكّرنا أن القاعدة الراسخة التي يستند إليها نتنياهو شعبيًا، ومن ثم برلمانيًا، هي اليمين الاستيطاني والتوراتي المتطرف، فإن جريمة فظيعة كجريمة إحراق بيت آل الدوابشة ستذهب كما ذهبت مثيلاتها أدراج الرياح، ويستمر الاستيطان ويتوسع، وتضمحل تدريجيًا إمكانيات قيام أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية، ومعها أي اعتدال فلسطيني يتيح الكلام عن تسوية سلمية.
ومن الملف الفلسطيني - الإسرائيلي إلى الملف الإيراني..
نحن هنا أمام احتلالات فعلية ومحاولات احتلال لعدة كيانات عربية وليس احتلال كيان واحد هو فلسطين، وأمام افتعال «حرب أهلية مذهبية» إسلامية - إسلامية بدل التقوقع اليهودي الخائف من السلام والذوبان الديموغرافي. وللأسف، مثلما أخفقنا في فهم طبيعة علاقات الغرب بالحركة الصهيونية حتى قبل ولادة إسرائيل، نبدو اليوم مصدومين من نجاح «اللوبي» الإيراني في بناء شبكات مصالح فعّالة مع مختلف كتل اليمين واليسار في معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. وهذا مع أن بعضنا يتذكر دور شاه إيران في نشوء «حلف بغداد» (السنتو لاحقًا)..
ولندع الكلام جانبًا، وندخل الموضوع من بابه. جون كيري اليوم يزور الشرق الأوسط بهدف تسويق رؤية أميركية استراتيجية للشرق الأوسط، وليس لتوضيح «سوء فهم» طارئ بين واشنطن والدول العربية. ثم إن أولويات هذه الاستراتيجية في عهد باراك أوباما غدت واضحة تمامًا على الأقل للراصدين العرب في أروقة واشنطن ودهاليزها. هؤلاء على بينة من «وشوشات» الكونغرس وتسريبات الإعلام و«نصائح» الخبراء في مراكز الأبحاث.. والصورة المتكوّنة - عمومًا - غير مريحة.
إن «الحرب على داعش» ومن لفّ لفّها هي العنوان، أو قُلْ الذريعة، لتجاهل كل ما عداها، بما فيه توسّع الهيمنة الإيرانية وتصاعد الطموحات الانفصالية الكردية على امتداد الشرق العربي. ولذا لم يعد رفض إنشاء «مناطق آمنة» في شمال سوريا وجنوبها مقتصرًا على فريق أوباما، بل يشمل أصواتًا وأقلامًا في بريطانيا ودول أوروبية أخرى لا ترى في رحيل نظام بشار الأسد بداية الحل في سوريا والتسوية في المنطقة، بل تقول إن «المناطق الآمنة» ستكون مناطق تحمي التطرف الداعشي!
وهنا، لا بد من التوقف طويلاً عند دور تركيا. كثيرون متحمّسون لاتهام أنقرة بدعم «داعش» وإلصاق كل أنواع التهم التخريبية والتآمرية بحكامها، وفي طليعة المتحمّسين بعض العرب الذين اعتادوا - عن حسن نية على الأرجح - ألا يفهموا السياسة إلا باللونين الأسود والأبيض. ومن ثم، فهم لا يميّزون بين التعاون التكتيكي والتحالف الاستراتيجي. إنهم لفرط غضبتهم على «إسلامية» الحكومة التركية مستعدون للتقليل من شأن الهجمة الإيرانية، مع ملاحظة أن نفرًا منهم يدعو صراحة للوقوف مع طهران ضد أنقرة. إنه يتجاوز تمامًا ما ارتكبته طهران عبر نظام الأسد بشعب سوريا، وما فعله الحوثيون باسمها بشعب اليمن، وما تعدّه لدول الخليج وعلى رأسها البحرين.
هؤلاء لا يدركون أن المسألة أكبر بكثير من نكاية ومزاج، فنحن أمام أخطار وجودية لا تحتمل إساءة التقدير وأخطاء الحسابات.
لقد دفعت عدة كيانات عربية ثمن إساءة التقدير وأخطاء الحسابات منذ احتلال صدام حسين الكويت. وتأخر التنبه لمغبة قيام نظام مذهبي على أنقاض حكم صدام حسين، وخسر عرب المنطقة كلهم من معالجة الخطأ بخطأ أكبر، وضرب حالة مذهبية بحالة مذهبية مضادة.
ما شهده العراق، وما زال يشهده، لا يحتاج إلى دليل. وما يعيشه لبنان منذ عام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري وتسليم نظام الأسد البلد لهيمنة حزب الله ليس إلا فصلاً آخر من المأساة. ومنذ 2011 انتقل التنفيذ الدامي لمشروع الهيمنة الإيرانية إلى سوريا نفسها متجاهلاً عواقب التلاعب بالتوازنات الدينية والمذهبية والإثنية في فسيفساء بلاد الشام. وهكذا، بسبب التآمر من جهة، والجهل من جهة مقابلة، عادت حجة «حماية الأقليات» سيفًا مصلتًا على المنطقة.
إن المنطقة تخسر كثيرًا باعتماد «الشيعية السياسية المتطرفة» التشفي والقهر بعيدًا عن مثاليات الإمام علي بن أبي طالب (ك) وعدالته الإنسانية. وتخسر «السنيّة السياسية المتطرفة» أكثر بهروبها إلى الانتحار الجماعي ومعاداة العالم كله بعيدًا عن براغماتية الحكم السنّي التقليدي ووسطيته.