سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

رحالة الصيف: اللغة و السفر

كان أحمد فارس الشدياق عالمًا من علماء اللغة. وربما أكثر. وفي كتابه «الجاسوس على القاموس» ناقش في مقدرة كبرى وثروة لغوية نادرة، قاموس «محيط المحيط» الذي كان يُعتبر – ولا يزال – أحد أهم المراجع اللغوية. وبقدر ما تسمح لي قراءتي المتواضعة في هذه الأبواب، لست أعرف ثريًا من أثرياء العربية في مثل ثرائه من المعاصرين، سوى الشيخ عبد الله العلايلي، الذي طبع القرن العشرين في لبنان كما طبع الشدياق القرن التاسع عشر.
غير أن أحمد فارس، الذي ولد مسيحيًا في كسروان العام 1805، وأشهر إسلامه شابًا، تميز عن العلايلي بكثرة الأسفار والترحُّل. درس في الأزهر، وبعده طلب كثيرون مهاراته. فعمل في الترجمة والتدقيق في فرنسا وبريطانيا ومالطة وتونس. وعاش فترة في الأستانة، إسطنبول، يصدر صحيفة «الجوائب»، ويسكن في قصر على البوسفور منحه إياه السلطان عبد المجيد. وفي تونس حل أيضًا ضيفًا على «الباي». وفي كل مكان كان ينصرف إلى الكتابة ويشتغل في اللغة. وابتدع، بناء لمطلب المجامع اللغوية، كلمات لم يكن لها وجود من قبل كالسيارة والاشتراكية.
بين النقاد واللغويين العرب من أنزله المنزلة الأولى لشدة الإعجاب به. وكان أكثر هؤلاء انبهارًا به الأستاذ مارون عبود، الذي سمى ابنه محمدًا، وعُرف بكنيته «أبا محمد». وعندما توفي الشدياق في إسطنبول العام 1887 أقيمت له جنازة لم تعرفها المدينة إلاّ في وفيات السلاطين. وسار في وداعه رجال العلم وأقطاب السياسة وشيوخ الإسلام ورجال الدولة السلطانية العلية. غير أن الشدياق كان قد أوصى أن يدفن في لبنان، فتم تحنيط جثمانه، ونقل إلى بيروت حيث سار خلفه إلى الجامع العمري الكبير موكب غير مسبوق من رجال الدين والأدب والعلم، يكبّرون ويرتّلون آيات من الذكر الحكيم. وأقيم للشدياق مدفن خاص في الحازمية.
غير أنه يتم الآن تسخيف الأثر كما في كل شيء في لبنان. فبعض التجار يريدون نقل رفات الشدياق مرة أخرى لكي يبنوا فوق الأرض مركزًا تجاريًا. وهو أمر لا يحدث إلا في لبنان وفي هذه المرحلة من الانحطاط. وكان وزير الثقافة العوني غابي ليون، قد أصدر قبل عامين، قرارًا بنقل آثار مدرسة الحقوق الرومانية في وسط المدينة، لكي يبنى فوق الأرض مبنيان تجاريان. وتجمع وزراء الثقافة السابقون، وبينهم الرئيس تمام سلام، في محاولة لثني الليون عن القرار المقذع. لكنه كان مقتنعًا بأن مبنيين حديثين أهم بكثير من أحد أجمل معالم التراث التاريخي والثقافي.
غدًا نص فصل لأحمد فارس عن مالطة.
إلى اللقاء..