زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

الحرية عند الفراعنة (1)

ألقيتُ محاضرة بمقر مركز الحرية بمدينة سينسيناتي أوهايو، وقد أطلق هذا الاسم - الحرية - على المركز، بعد الحرب الأهلية في أميركا، حيث كان هناك قتال بين من يقيمون غرب النهر وشرقه في نفس المدينة التي يقسمها النهر إلى قسمين! وبعد المحاضرة أُقيمت حلقة نقاش حول الحرية ومعناها.
وكان أول سؤال لي هو: إلى أي مدى كان المصري يحصل على الحرية في مصر القديمة؟ وكانت إجابتي: أن الناس في مصر القديمة كانوا أحرارًا، وأن الحرية في ذهنهم مرتبطة بـ«ماعت» رمز الحق والعدل والنظام عند الفراعنة، وأنها تعني أيضا (استقرار الحياة)، وأن الفراعنة من ملوك وأمراء وموظفين وفقراء عاشوا في الـ«ماعت».
أما السؤال الآخر فكان: عن الفرعون الذي كان مقدسًا لدى الفراعنة، وهو «حورس» على الأرض وإلهًا بعد موته؟ هل هذا الفرعون كان لديه الحرية الكاملة لكي يفعل ما يشاء في البلد أو الشعب؟ وقد أجبت: بأن الملك في مصر القديمة كان يعتبر ممثل الإله على الأرض، وعلى الرغم من ذلك لم يكن حرًا في أن يفعل ما يشاء، ولكن وظيفته الأساسية هي أن يتأكد من إرساء وترسيخ العدل الاجتماعي بين الناس، وبالتالي كان لا بد أن يُرسي هذه القواعد، وأن يتلقي كل فرد في المجتمع حقه في الـ«ماعت» وتطبيقه، بمعنى أن الفرد في المجتمع المصري القديم كان عليه واجب العمل والتميز فيه لكي يرضى عنه الإله الخالق، وبالتالي ينال حقه من العيش الكريم والأمن والاستقرار.
كان المصري القديم يكتب على مدخل مقبرته أنه بنى المقبرة وأعطى كل عامل أجره وأقسموا – أي العمال - ثلاث مرات أنهم أخذوا أجرهم وأنهم راضون! بل وكان صاحب المقبرة يتباهى بأنه لم يفعل ما يغضب الإله وأنه تحرى مكارم الأخلاق في كل أفعاله، ولذلك فقد أحبه الإله، وأيضا لا بد أن ننظر إلى ساحة العدل عندما كانت توضع الإلهة «ماعت» في كفة، وفي الجانب الآخر قلب المتوفى في حضور «تحوت» رمز الحكمة، و«حورس» ممثل الملك، وكذلك «سيشات» ربة الكتابة لتسجيل ما فعله المتوفى في دنياه، وأن يتم الحكم عليه بالعدل والحق، هذا ما كان يفعله الناس.
أما عن الفراعنة فلدينا مثال مهم جدًا عن «تحتمس الثالث» أعظم فراعنة مصر القديمة، والذي يُعرف بين علماء الآثار باسم «نابليون العالم القديم»، فقد سجل رئيس وزرائه «رخميرع» نصًا فريدًا من نوعه وهو يشير إلى أن تعليمات الفرعون المباشرة له أن ينشر العدل بين الناس، وأن يتأكد أن الـ«ماعت» راسخة ومطبقة، وأن الحق والعدل هما ما يجعلان الناس يعيشون سعداء، وحذر من عدم تطبيق الـ«ماعت»، بل وطلب منه أن يقابل الناس ويسمع شكواهم.. وإذا لم ينشر الفرعون الحق والعدل كان الشعب يثور، ولدينا أمثلة للكثير لثورات شعبية في كثير من العهود في مصر الفرعونية.
الحرية لا تعني أن الإنسان حر فيما يفعل بلا قيود! بل هي التزام من الفرد بالعيش وفق عادات وتقاليد الجماعة والتزام من الجماعة برفاهية أفرادها، وتوفير كل ما يساعد على إسعادهم دون إخلال بالنظام العام للجماعة.