ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

ثقافة الاستحواذ

كيف يمكننا أن نقرأ هذا الرعونة المنفلتة على الطريق، قراءة ثقافية؟ أعني حوادث السيارات.. فقد أصبحت بلادنا تتصدر دول العالم في أعداد الضحايا الذين يتساقطون على الطرقات كل يوم، نتيجة التهور الذي يؤدي لحوادث قاتلة.
قضيتُ إجازة العيد الماضي مترحلاً بين المدن السعودية، قاطعًا بالسيارة مسافة تزيد على ثلاثة آلاف كيلو، من الشرق إلى الغرب. لكني ذهلت من مستوى السلوك العدواني المتفشي على الطريق، وأرى أن ما نتحدث عنه هو قضية ثقافية بامتياز.
هي قضية تتعلق بما يصطلح عليه السلوك الثقافي، وهو سلوك مكتسب يتعلمه الإنسان من بيته ومحيطه وبيئته، ويختلف عن السلوك الفطري الذي يولد معه ويمثل منظومة الحاجات البيولوجية.
لقد أصبح السلوك الشرس ظاهرة، ونحن بحاجة إلى أمثال المفكر العراقي وعالم الاجتماع علي الوردي لقراءة الظواهر الاجتماعية وتحليلها. ومن بينها ظاهرة الانفلات عن القانون أثناء قيادة السيارات على الطرقات، أو في استخدام المرافق العامة، حيث أصبحت شوارعنا كحلبة لمصارعة الثيران مرعبة ومخيفة وخطرة.
قد يمكننا أن نحدد عنصرًا مؤثرًا في تكوين هذا السلوك الثقافي الخاطئ، وهو «الاستملاك»، أو ما يسميه علي الوردي «الاستحواذ»، فالكثير من شبابنا يتلقون منذ الصغر ثقافة تحرضهم على اعتبار المنافع العامة ملكًا خاصًا، وبالتالي ينشأ الشاب وهو يعتقد أن البلد له لوحده، وأن الطريق ملكه العضود، بل إنه يملك حتى الدين. وبالتالي فهو لا يجد نفسه معنيًا بمشاركة الآخرين، أو الاعتراف بحقهم.
هذه هي المشكلة الأهم، الشعور بالاستملاك يجري ممارسته حيثما تمكن الفرد من فرد عضلاته وامتلاك القوة، ولا أكثر قوة من عنفوان سيارة فارهة تسابق الريح وتزيح عن طريقها الآخرين. هو ذات السلوك الذي يجعل التعايش صعبًا إن لم يكن مستحيلاً، لأن التعايش يقتضي المشاركة والتنازل والحدّ من سطوة الذات، إزاء ثقافة تفرد لصاحبها حق التمدد، والاستحواذ على المشتركات.
لماذا ينبغي مناقشة هذه القضية ثقافيًا..؟ لأنها مؤثرة وخطيرة، وما دمنا غير قادرين على تحليل الجذر الثقافي لهذه الظاهرة التي تستنزف من دماء شبابنا ومن طاقاتنا ومن اقتصادنا الكثير، فإن أي حلٍ آخر سيبقى عديم الفعالية. بل يمكن القول إن كل هذا الرعب والموت الذي نشاهده على الطرقات ويؤدي لخسارة فادحة في الأرواح والأموال، هو الأثر الظاهري الفاقع لهذه الثقافة. لأن تأثيرها على النسيج الاجتماعي والوطني وعلاقة الأفراد والجماعات ببعضهم كارثيًا ومدمرًا.
لا يمكننا أن نتوقع سلوكًا متحضرًا يقوم على التعايش السلمي، واقتسام المنافع، وتحمل المسؤوليات العامة، والتضامن بين السكان، واحترام التنوع، ونحن نكرس كل يوم ثقافة الاستحواذ والاستملاك وتهميش حق الآخرين. وهذا لا يشمل حق الاستخدام الآمن للطريق فقط، بل حق العيش المشترك في الأوطان، والتعبد للأديان. لا بد من ثقافة تؤسس للمشاركة واحترام حق الآخرين في المنافع المشتركة وضرورة التقاسم معهم، وليس الاستحواذ على حقوقهم، أو الوصاية على ضمائرهم. فعقدة العقد هي هذه الثقافة القائمة على الاستحواذ وإلغاء حق الآخرين في المشاركة.