د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

مجدل شمس

وسط المجازر الجارية في سوريا والعراق، ووسط التضاغط الشديد بين أطراف وتحالفات كثيرة في المشرق العربي كله، وبعد عام من الهم والغم الذي أعقب ميلاد «دولة الخلافة» المزعومة في العراق والشام، وبعد خمس سنوات من بداية الدراما السورية ساعة نشوب «الثورة» في درعا تيمنا بما دار في بلاد عربية أخرى فيما سمي الربيع العربي؛ بعد كل ذلك، فإن كثيرا من الأحداث «الصغيرة» لا تبدو ذات أهمية تذكر. ويوم يكتب تاريخ الصراع على المشرق العربي كله، أو حتى الإقليم العربي بكامله، فإن حادثة مثل تلك التي جرت في قرية مجدل شمس ربما لن يرد لها ذكر، ومن الجائز أنها سوف تحصل على ملاحظة في هامش. برز اسم مجدل شمس فجأة حينما اعتدى جمع من أهلها على عربة إسعاف إسرائيلية تحمل جرحى سوريين من جراء المعارك الدائرة في الجوار السوري القريب إلى المستشفيات الإسرائيلية فقتل جريح وأصيب آخر جرحا على جرح.
لمزيد من المعرفة فإن مجدل شمس من القرى العربية القليلة الباقية على مرتفعات الجولان السورية، الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ نهاية حرب يونيو (حزيران) 1967. عدد سكان القرية 15 ألف نسمة يمثلون تقريبا نصف عدد السكان العرب الذين استمروا في مواقعهم بعد الحرب، رافضين للجنسية الإسرائيلية، ومتمسكين بالجنسية العربية السورية. ولكن السمة المميزة للقرية أن سكانها من «الدروز»، الذين هم من الطوائف العربية والإسلامية أيضا، ولكن مع خصائص «مذهبية» تعطيهم ذاتية خاصة، مثلهم مثل العلويين وأنصار الطائفة الإسماعيلية وغيرهم من الملل والنحل التي يجمعها أمران: أولهما أنهم أقليات بمعنى أنهم من الناحية العددية ظلوا جماعات صغيرة؛ وثانيهما أنهم طوائف حافظت على وجودها المتميز رغم مئات السنين من العيش وسط أغلبيات كاسحة سواء كانت من السنة أو الشيعة. ببساطة نجحت هذه الطوائف في معركة البقاء في محيط تراوح ما بين الاضطهاد والتسامح.
نعود إلى الواقعة مرة أخرى لكي نجدها كاشفة بحيث تظهر كثيرا من أبعاد الكارثة السورية، التي سوف نجدها فورا تحتوي على كم هائل من الكوارث الأخرى. الكارثة الأولى أن قرية عربية، بسكانها العرب، قاموا بالاعتداء على جرحى عرب، أصيبوا خلال معارك بين عرب وعرب، وحتى سوريين وسوريين. الموقف لا بد أنه كان حرجا للغاية، المستشفيات السورية على الأغلب لم تعد تتحمل جرحى جددا، أو أنه جرى تأميمها لصالح جماعة من الجماعات المتحاربة، وحرمت منها جماعات أخرى لم تجد إلا إسرائيل لكي تعالج جرحاها. الكارثة الثانية أن عربات الإسعاف لا تدخل وتخرج من مناطق قتال حاملة لجرحى، إلا إذا كان هناك تفاهم مع طرف ما، لأن إسرائيل لا تعرض جنودها وأفرادها لأخطار مجانية. نتفهم أنه من الممكن أن تسعى إسرائيل للحصول على دعاية عالمية مجانا حين تكون القلب الرحيم الذي يأخذ الجرحى العرب ويداويهم في المستشفيات الإسرائيلية. ولكن الرحمة الدعائية لها جانب، والنفاذ إلى صميم سوريا والتلاعب بأطراف الصراع فيها جانب آخر. ولحسن الحظ أن كثيرا من المعلومات التاريخية قد ظهرت الآن عن الدور الإسرائيلي في الحرب الأهلية اليمنية الأولى، وهو دور لم يكن هامشيا، بل إنه كان فعالا في إرهاق الجيش المصري وتجهيزه لهزيمة يونيو 1967. ومن يريد معرفة التفاصيل عليه أن يقرأ كتاب يوسي ألفر «شد الأطراف أو Perifery Diminsion علاقات إسرائيل المضطربة مع إيران وتركيا». قارن المسافة ما بين إسرائيل واليمن، وبينها وبين سوريا، وساعتها سوف يمكنك إدراك الحد الذي وصلت إليه إسرائيل في الانشغال بالشأن السوري. الأمر هنا ليس فيه مؤامرة من أي نوع، ولكنه مجرد إدراك دولة لمحيطها الاستراتيجي وكيفية تعظيم المكاسب والمصالح الخاصة بها في منعطف تاريخي بعينه.
الكارثة الثالثة أن الواقعة تكشف للمرة الألف القناع الزائف للدولة «الوطنية» العربية المعاصرة، والتي لم تنجح أبدا في جعل «المواطنة» والمساواة أمام القانون أساسا لوجودها. فبعد عقود من «الاستقلال» الوطني انكشف الحال عن أشكال من الدول الطائفية، التي إما تستبد بها أقلية تجعل الأغلبية مواطنين من الدرجة الثانية؛ أو تستبد بها أغلبية تعرف جيدا كيف تنكل بكل الأقليات العرقية والدينية والمذهبية. جماعة مجدل شمس التي هجمت على سيارة الإسعاف الإسرائيلية لكي تضرب الجرحى فيها فتقتل واحدا منهم، وتصيب آخر إصابة قاتلة كان لديها اعتقاد جازم أن الجرحى من جماعة «النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة الذي يرى في «الدروز» جماعة «كافرة»، ومن ثم فإنه يسعى لإبادتهم. ساد هذا الظن بعد أن شاع قيام جبهة النصرة بمذبحة كبرى في قرية «الحضر» في منطقة السويداء بجبل الدروز. الأعصاب هنا وصلت إلى حافتها، ولا يوجد نقص إطلاقا في إعلانات ودعايات التطرف التي تتباري فيها جبهة النصرة مع غريمها «داعش».
هكذا تكتمل الحلقة، ولم تعد قصة مجدل شمس واحدة من قصص الحرب الدامية والبشعة، وإنما قصة الخروج من الأزمة العربية الراهنة والتي تدخل مباشرة في صميم تركيبة «الدولة» التي تستطيع بث الطمأنينة في قلوب الأغلبية والأقلية على السواء. النظرة على المسرح العسكري السوري العراقي سوف تجد معسكرات للسنة والشيعة والعلويين والدروز والأكراد وما بينهما وداخلهما من فرق وتحالفات عرضية ورأسية، وكلها موجودة في الحلبة في قلبها في الرقة والرمادي والموصل، أو عند الأطراف في مجدل شمس. وبالمناسبة فإن الصورة لن تختلف كثيرا ساعة الوصول إلى اليمن أو ليبيا، ومن ثم فإن العلاج الناجع لبعد من أبعاد المرض ربما يكون واحدا في كل الحالات. لقد سبق أن قدمنا اقتراحا للدول العربية الرئيسية، أو لقمة عربية خاصة، أن يخرج إعلان يؤكد على السلامة الإقليمية لكل دول المنطقة في ظل الحدود القائمة، ومن ثم يغلق الباب للانفصال خاصة لو تم التأكيد على هذا الإعلان في مجلس الأمن فيكون هناك ضمان دولي إضافي. مجدل شمس تضيف بندا آخر في الإعلان لا يقل أهمية عن الأول، وهو ضمان حقوق الأقليات في المواطنة والمساواة التي سيطرت عليها مخاوفها إلى درجة ارتكاب الجرائم العظمى التي لا تقرها ديانة أو مذهب أو تقاليد حرب وهي قتل جرحى عزل. مثل ذلك يخلق أساس المواطنة في الدولة، وهي الفكرة المضادة لأفكار الإرهابيين من أمثال «داعش» و«النصرة» و«بيت المقدس» و«الإخوان المسلمين».