حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

ماذا بعد الثانوي؟

الهم الأزلي الذي يؤرق الحكومات حول العالم عموما والعربية منها خصوصا، هو محاربة البطالة وتأمين أكبر قدر من فرص العمل الممكنة بالترغيب والترهيب. وهناك رابط وثيق وقوي وأصيل بين منظومة التعليم وسوق العمل، وجرت العادة أن نحمل التراث عبء أن التعليم «لا بد» أن ينتهي بشهادة جامعية حتى يكتب لصاحبه الفرصة الحقيقية للحصول على إمكانية التوظيف الكريم والمحترم.
المفهوم الحديث للتعليم الجامعي عمره ما يقارب الخمسمائة عام، وهو يحسب بشكل رئيسي للولايات المتحدة وجاء بعد «صهر» مفهوم جامعتي كمبردج وأكسفورد والمعهد الألماني للأبحاث، وأصبح بالتالي القاعدة الذهبية والمعيار الرئيسي للتعليم الجامعي حول العالم بامتياز.
مع مرور الوقت كونت أميركا آلة هائلة للتمويل لرعاية ودعم هذه المؤسسات التعليمية جعلت أرصدتها الأكبر والأفضل والأهم مما مكنها من التوسع في مجالات البحوث والتطوير والعلوم.
ومع زيادة «تكاليف» إدارة وتطوير هذه المؤسسات والاحتياج المستمر لجلب الكفاءات المهمة والمميزة ارتفعت الرسوم الجامعية وأصبحت عبئا على الطلبة وأولياء الأمور والمؤسسات المانحة، وأصبح هناك سؤال جديد ومنطقي يطرح بقوة: هل التعليم الجامعي بات «مجديا» من الناحية الاستثمارية وهل عوائده مجزية على المجتمع ككل؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة في ظل استمرار «غول» البطالة وبالتالي لن تؤثر فيه وتحركه أرقام الخريجين الجامعيين وخصوصا في ظل انقلاب الهرم الوظيفي لأن معظم فرص الوظائف هي للعمالة ذات الياقة الزرقاء أي العمالة ذات المهارات البسيطة وليست لأصحاب الياقات البيضاء أي المهن التي بحاجة لعلوم جامعية، وهذه نقطة مهمة وحيوية جدا وعت لها ألمانيا منذ وقت طويل وأيقنت هذا التحدي وأعدت العدة له. فألمانيا، البلد الاقتصادي والصناعي بطبيعته في المقام الأول، حولت أكثر من 85 في المائة من خريجي الثانوية العامة فيها باتجاه المعاهد الفنية ليتم تخريج كفاءات بشرية مطلوبة في مجالات الميكانيكا والكهرباء وغيرهما من القطاعات التي تمتلئ بها الورش والمصانع والمعامل المهمة فيها.
الدول الصناعية الكبرى تقوم الآن بمراجعة كفاءة النظام الجامعي ومدى جدوى الاستثمار في تمويله واعتباره جزءا حيويا من منظومة التنمية الرئيسية للبلاد، وما إذا كان من المهم أن يكون ذلك للقطاعات الأخرى التي تقدم التدريب والتأهيل التقني المرغوب بشكل هائل ولا تلقى نفس الدرجة والاهتمام ولا الدعم ولا التمويل.
وليس القطاع الصناعي وحده الذي يشتكي من شح الموارد البشرية الملائمة لاحتياجاته بل هناك قطاع عريض ومهم وحيوي ومؤثر ومتنام له نفس الشكوى هو القطاع الصحي. فباستثناء المهن الرئيسية المعنية بالأطباء، هناك شح كبير في إنتاج الكوادر البشرية الأخرى المطلوبة في قطاعات التمريض والمساندة الفنية والمختبرية، وهذه القطاعات هي العمود الفقري للقطاع الصحي ولا شك.
اليوم هناك قاعدة تقول إن الخريج الجامعي يحقق دخلا أعلى بما يقارب 15 في المائة مقارنة بغير الجامعي، ولكن هذه الفجوة تتلاشى مع وجود شح في بعض المهن غير الجامعية لأن القاعدة الاقتصادية هنا تتفوق فيكون الحاكم في الأمر هو قاعدة العرض والطلب وبالتالي تفرض السوق تسعيرتها على طالب الوظيفة ورب العمل.
شح المعلومات الضخم الموجود اليوم يجعل «تحديد» و«تقنين» الاستثمار العام والخاص في هذا القطاع أقل فعالية وتأثيرا ولا شك، ولكن تبقى قاعدة أن التعليم الجامعي بحاجة إلى «إعادة نظر» لأنه لم يعد يطابق الأولويات الاقتصادية ولا التنموية المطلوبة، ولن يكون صادما ولا صاعقا إذا ما تم تخفيف الدعم اللامحدود لهذا القطاع لصالح قطاعات أخرى تحقق التأمين الوظيفي الكريم وتحقق التطور الوظيفي الذي يلائم الهرم الوظيفي الموجود في البلاد لأن خريجي الجامعات باختصار لن يحلوا مشكلة البطالة ولن يوطنوا الوظائف بالمعدلات الحاصلة اليوم.. نقطة على السطر باختصار.