خالد البسام
كاتب ومؤرخ بحريني
TT

نقاء

لماذا يتخلى الإنسان والكثير من البشر عموما اليوم عن النقاء؟
هناك ألف سبب وسبب، والمصائب التي فوق رؤوس الناس ليست قليلة، كما أن الهموم زادت والكذب صار على كل لسان.
الأنقياء صارت مهمتهم بل ومعيشتهم صعبة جدا، فالتعامل مع البشر بنقاء لم يعد صالحا لهذا الزمن، لأن الجميع صار يتطلب منا أن نكون في مستوى تعاملات هذا العالم الجديد.
ولعل أهم هذه التعاملات على الإطلاق هو أن ننسى نقاء القلوب وصفاءها، وأن نحاول أن تكون قلوبنا عادية وتحتمل كل الصدمات التي قد تواجهنا مع الكراهية، والمشكلات التي قد تصادفنا مع القلوب الشريرة.
القلب النقي اليوم يحتاج إلى كثير من الوقت لكي يكون قلبا آخر: قلب لا يهتم، قلب لا يراعي ولا يحس، قلب لا ينبض. وفي كثير من الأحيان فإن نقاء القلب لا يمكن تغييره مهما فعلنا من خطايا متعمدة.
هناك نقاء الروح، ونقاء المشاعر، ونقاء الضمير، وكلها ستتعصى على النسيان أو الهجر عند البشر الأنقياء الذين ولدوا على هذا ولم يتعلموه من الحياة.
فالدنيا اليوم ولا كانت بالأمس تعلم الناس المشاعر والأحاسيس، ولا تدرس النقاء والطيبة والمحبة، لأنها ببساطة شديدة مولودة فينا وتعيش بيننا وتتعامل مع أحبائنا وأصدقائنا وكل معارفنا. بل إنها لا تفرق بين إنسان وآخر وأحيانا تنسى أن هذا عدو وذلك حبيب أو صديق. لا تختلط عندها المشاعر، لكن النقاء يفرض عليها عدم التفرقة بين أي إنسان مهما كان طبعه أو شروره.
ومن أجل استعادة النقاء اليوم هناك مهمات كثيرة يجب القيام بها وهى عموما ليست سهلة، بل تحتاج إلى الكثير من الصبر والآلام وزيادة جرعات الحب في قلوبنا كي نتمكن من تحقيقها.
نحن نحتاج مثلا إلى نقاء يشبه براءة الطفولة التي نراها تضحك وتلعب وتبكي من دون حدود، ونحتاج إلى الطهارة تملأ قلوبنا فنبوح بكل شيء ولا نخشى شيئا مهما كان سوف يغضب الآخرين، الذين هم سيغضبون أصلا من بوحنا المجرد فقط.
نحتاج أيضا إلى استعادة النقاء في حياتنا بدل من استعماله بين زمن وآخر وبين أزمة وأخرى. فلا ينفع النقاء في بعض الأوقات، لأننا ببساطة نريده ونحتاجه في كل وقت، فهو سر حياتنا وغموضها. إنه الشيء الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو وضعه على الرف أو إحالته إلى التقاعد، فهو عمرنا الحقيقي الصادق الذي يعرينا ويعري الآخرين ويكشف زيفنا وزيفهم.
نقاء القلب أصبح صفة نادرة وثمينة جدا، فلا يمكن أن تجدها في أي مكان ولا في أي قلب أو روح.
بل إن نقاء القلب لم يعد صفة البشر ولا حتى بعض البشر، فقد صار بفضل مصائب الدنيا الكثيرة، صار صفة البشر الطاهرين النادرين جدا.
فحتى نقاء العين التي ترى الناس على حقيقتهم تكاد تختفي وتحل محلها عيون وقحة وكاذبة لا ترى سوى ما تريد ولا تشاهد إلا ما يفرحها من نقائص البشر وعيوبهم.
أعترف بأنه كلما ازداد الشخص نقاء ازداد تعاسة، كما يقول الأديب الروسي الشهير الراحل أنطوان تشيخوف، لكني أعترف أيضا أن تلك التعاسة، ربما المؤقتة، هي تتويج لنقائنا وقلبنا الطيب المأخوذ بالحنان والمحبة الصافية. ليس ترفا إطلاقا اليوم أن تكون قلوبنا نقية وطاهرة، بل الترف الحقيقي هو ألا نشعر بأن هناك نقاء في الدنيا أصلا، وألا نعترف بوجود قلوب طاهرة في حياتنا المتغيرة.
لا أظن أن هناك شيئا في الدنيا أجمل من النقاء حيث يعيدنا إلى بهاء العالم وروعة الإنسان.