عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

فخ صحافي

فقدت الحياة السياسية البريطانية اثنين من أكثر ساسة البلاد خبرة، وهما وزيران سابقان في حكومتي المحافظين والعمال.
الأول وزير الخارجية والدفاع في حكومتي جون ميجر ومارغريت ثاتشر السير مالكولم ريفكند. والثاني جاك سترو وزير الداخلية والخارجية في حكومة توني بلير.
استقال الرجلان من عضوية حزبيهما في مجلس العموم ليستمرا عضوين مستقلين في الأسابيع الباقية من عمر البرلمان (ينتهي بعد 66 يوما) ولن يخوضا الانتخابات القادمة يوم 7 مايو (أيار) في دائرتيهما (الأول في كينسنغتون وتشيلسي والثاني في مدينة بلاكبيرن وثلثا ناخبيها من المسلمين). كما أحال الرجلان نفسيهما طواعية للجنة التحقيق البرلمانية في المصالح الخارجية ومدى تأثيرها على الحياة السياسية ونزاهة النواب.
الرجلان وقعا في فخ صحافي حول مدى استعداد رجل السياسة لاستغلال المنصب مقابل المال أو الحصول على منصب في شركات تجارية خارجية؛ هل هو استغلال النفوذ السياسي أم تداخل المصالح مما يؤثر على استقلالية القرار السياسي للنائب؟ خاصة إذا كان في مجال نشاط يؤثر على المصالح القومية للبلاد.
ريفكيند رئيس اللجنة البرلمانية لشؤون الأمن والاستخبارات. وسترو، بحكم منصبه السابق كوزير للخارجية، يحمل في ذاكرته أسرار الدولة (ولا يستطيع مثله نشر كتاب أو مذكراته بلا عرضها أولا على وزارة الخارجية، والتي قد تمنع النشر أو تحذف أجزاء منها أو تعيد صياغتها وفقا للمادة الثانية من القانون 102 الصادر في عام 1902 والمعروف بقانون حماية المعلومات الرسمية).
اللوائح والتقاليد البرلمانية تلزم نائب مجلس العموم (والذي يتقاضى مخصصا سنويا قيمته 67 ألف جنيه إسترليني) بأن يدرج في سجلات البرلمان أي مبلغ أو دخل نقدي أو عيني أو ضيافة يحصل عليها أو يمتع بها من أي مصدر خارج مؤسسة البرلمان، ويكون مفتوحا للاطلاع على موقع البرلمان من أي شخص (اللائحة تنطبق علينا أيضا المجموعة الصحافية البرلمانية لإدراج أي دخل يزيد على 560 جنيها من أي مصدر غير المؤسسة الصحافية التي يعمل بها يجب أن يدخل سجل البرلمان ويكون موجودا على موقع البرلمان على الإنترنت للاطلاع عليه لضمان استقلالية الصحافي وعدم استغلاله لمنصبه للحصول على امتيازات من جهة خارجية. والحكم للقراء: هل يؤثر ذلك على حياد الصحافي - مثل دعوة من جامعة أو مؤسسة لإلقاء محاضرة، وإذا كان ثمن تذكرة الطائرة أو الإقامة في الفندق يزيد على 560 جنيها تقتضي اللوائح أن أضع المعلومة والتفاصيل في السجلات).
الصحافة الحرة، والتي تضايق الساسة بكشف خفاياهم هي جزء لا يتجزأ من المؤسسة الديمقراطية في النظام البرلماني لأن الحكومة تتمتع بغالبية المقاعد، ومن الصعب أن تسحب الثقة من نفسها، ولذلك فالمجموعة الصحافية البرلمانية هي عين الشعب على الحكومة وعلى ممثلي الشعب: هل يقومون بالعمل الذي انتخبهم الشعب من أجله؟ أم يتقاعسون عن العمل؟
في حفل العشاء السنوي مع الصحافيين البرلمانيين قال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون إن «الصحافة البريطانية السياسية معروفة بنظرتها التشكيكية، وهي عنيدة لا يمكن السيطرة عليها، متعبة لنا نحن الساسة، إلا أنها تستحق بجدارة الاحترام الذي يكنه لها العالم؛ لقدرتها على التحقيق والاستقصاء والتنقيب في أدق التفاصيل ووضعها الحياة السياسة تحت مجهر المراقبة». وأضاف المستر كاميرون: «هذه الصفات والممارسات المتعبة لنا نحن الساسة هي مسامير التثبيت التي تبقي نظامنا الديمقراطي متماسكا».
وهذا هو دور الصحافة السياسية، السلطة الرابعة، التي مهمتها الحفر والتنقيب فيما تحت أو وراء ما يبدو مظهرا جيدا نظيفا لكشف ما وراء المظهر المنمق.
ورغم وقوفهما على موقفي النقيض في المعادلة السياسية، «الديلي تلغراف» ومعظم قرائها من اليمين المحافظ، و«القناة الرابعة» ذات الخط التحريري اليساري الاشتراكي الداعي لهدم المؤسسات التقليدية، الاثنان تكاتفا وعملا ببرنامج مشترك لكشف جشع الساسة وعدم التزامهم بالبرنامج الذي تعاقد عليه الناخب معهم باختيارهم في صناديق الاقتراع. ما يشارك فيه المؤسستان الصحافيتان هو المهنية العالية والمهارات السياسية والصحافية التقليدية للصحافة التحقيقية البريطانية.
كاميرا تلفزيونية صغيرة مخبأة في حقيبة اليد، وصحافيتان ادعتا أنهما وكيلتان لمؤسسة تجارية صينية.
الفريق الصحافي المزيف سجل مقابلة بكاميرا خفية في حقيبة يد صحافية، تقول إنها ابنة مدير شركة عالمية، مع كل من عضوي البرلمان على حدة. قالوا لكل منهما نحن نمثل شركة من الصين للاستثمار والطاقة، هلا عملت مستشارا لنا؟ وكم تتقاضي؟
الأول قال إن لديه متسعا من الوقت، وإن السياسة لا تأخذ منه وقتا كثيرا، وإنه سيعمل مستشارا للشركة بما يتراوح ما بين 5 آلاف و6 آلاف جنيه لليوم الواحد. الثاني كان أقل سعرا ببضع مئات لكنه زاد الطين بلة باستعراضه عدة نماذج لنصائح سياسية وجهها لشركات سابقة، وكيف أنه ساعد شركة على توقيع عقود في أوكرانيا أدت لتحقيقها أرباحا طائلة.
كما يتوقع القارئ صدرت «التلغراف» في اليوم التالي بتفاصيل اللقاء على الصفحة الأولى في الطبعة الأولى، مما ساعد بقية الصحف على إعادة نشر الخبر في الطبعات الثانية – وإشارة إلى بث تفاصيل اللقاء كاملة في برنامج «القناة الرابعة» في المساء.
الصحافة والكاميرات حاصرت منزلي العضوين وأمطرتهما بالأسئلة. من الناحية القانونية أو الإدارية لم يرتكب النائبان مخالفات إدارية سوى بحث عرض عمل خارجي لا علاقة له بالعمل البرلماني في مكتبيهما في مجلس العموم والذي يتحمل تكاليفه دافعو الضرائب، إلا أن المخالفة أخلاقية، كما أن الادعاء بأن لدى النائب متسعا من الوقت لعمل إضافي يعتبر إهانة لأبناء الدائرة الذين انتخبوه ليمثلهم.
الساسة اختلفوا حول ما إذا كان يسمح للنائب بمزاولة عمل إضافي بجانب تمثيله لدائرة برلمانيا أم يتفرغ طوال الوقت؟
المحافظون، ورئيس الوزراء، وكبار السن من الساسة، يحبذون مزاولة مهنة إضافية، خاصة إذا كان المرء طبيبا أو يدير شركة، بشرط أن يكون part time أي في غير أوقات البرلمان، وإلا يستغل النائب موقعه السياسي للاستفادة ماديا. المبرر أن العمل أو الوظيفة في المجتمع تجعل النائب يتفهم أوضاع ومشاكل المجتمع والاقتصاد بدلا من عزلته في قوقعة السياسة داخل البرلمان حيث لا يتعامل إلا مع ساسة مثله.
التيار الثاني من الشباب وحزب العمال المعارض يرفض الفكرة ويصر على التفرغ للعمل السياسي فقط. لا يتمتع أي من التيارين بأغلبية مقنعة. القول النهائي للناخب ورد فعله في الدائرتين إذا قرر «معاقبة» الحزب الذي ينتمي إليه النائب الذي وقع في فخ الصحافة.. ولولا الصحافة الاستقصائية لظل الناخب في الظلام..