ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

إشاحة البصر لم تعد خيارا

ووجه المصور الصحافي الأميركي الشهير «كينيث جارييك» بأسئلة نقدية حول واحدة من أشهر صوره التي كان التقطها في حرب الخليج الأولى، وفيها تظهر جثة متفحمة لجندي عراقي في عربته ضمن رتل من العربات العراقية المحترقة بفعل القصف الأميركي. وقد بدا الجندي في اللقطة كمن كان يحاول النجاة بنفسه والخروج من النافذة قبل أن تلتهمه النيران.
لم تُنشر الصورة حينها في الإعلام الأميركي، لكنها نُشرت في صحيفة «الليبراسيون» الفرنسية بعد مدة، ففقدت الكثير من الصدى الذي كان يمكن أن يحصل لو نشرت خلال الحرب.
خسرت الصورة وقعها في ذروة الاحتفاء الأميركي بالحرب؛ إذ رغم أهمية وقوة المضمون الذي حملته، فقد جادل الذين رفضوا نشرها بأن هناك شيئا غير أخلاقي في تصوير الموتى. هذا الأمر صدم المصور «جارييك» فهو اعتقد حينها أن صورته تلك ستتحدى الفكرة التي راجت بأن حرب الخليج كانت حربا «نظيفة» ولا تعدو عن كونها أشبه بلعب الفيديو. كان على يقين أن لقطته التي تظهر كيف كان الجندي العراقي يصارع لينقذ حياته حتى اللحظة الأخيرة ستحدث انقلابا وتظهر كم أن الحرب قبيحة على غرار ما فعلت صور من حروب سابقة بدلت موازين، مثل صورة فتاة النابالم في حرب فيتنام، أو صورة الطفلة الجائعة التي كان يتربص بها نسر في السودان..
لم يحدث شيء من ذلك.
وحين سئل «جارييك» لماذا التقط صورة الجندي العراقي المحترق، أجاب: «أنا لست مهتما بتصوير الموتى، لكن إن لم ألتقط صورا مثل هذه سيعتقد أناس كأمي أن الحرب هي ما يرونه في الأفلام»..
يبدو أن زمن قدرة صورة ما بعينها على إحداث تغيير قد ولى إلى غير رجعة، فكم من صورة من يوميات الموت التي نعيشها توهمنا أنها ستنهي معاناة أو تطيح بأنظمة وتقلب معادلات. فمن سوريا إلى العراق ومصر ولبنان واليمن وليبيا، نحن على تماس مع صور إخبارية مرعبة تعكس شراسة الحرب والاستبداد والقتل، لكن العنف والقسوة المصورة بوضوح لم تعد تفضي إلى تغيير فعلي في السياسات والمواقف.
لا شك أن الإنترنت غيّر من كيفية وصول الصورة إلى الرأي العام، فنحن نكاد نختنق من وفرة الصور الصادمة.
يعتقد البعض، وعن حق، أن إظهار الدم والفظاعة بشكل متكرر يصيب المشاعر بالملل، وبالتالي يضعف مسار التفاعل الذي يفترض بصور من هذا النوع أن تحدثه. فنحن كلما رأينا المزيد من تلك الصور شعرنا بالعجز والتخبط، فنتعثر في كيفية إيجاد سبل التحرك. فهل تكفي مشاعر الغضب والإحباط للتحرك أم أن ذاك يحتاج عقلانية أكثر؟
في عالم اليوم من المستحيل لعيوننا أن تستريح ومن غير المؤمل أن نعود إلى تلك الفقاعة التي كانت تشعرنا أننا بمأمن ولو واهمين. لم نعد نستطيع ادعاء البراءة وبأننا لا نعرف ولم نر. لكن سواء نظرنا إلى تلك الصور أم لا فإن وجودها يبقى ضروريا لأنها تشكل مرجعا للحاضر والمستقبل من وجهة نظر تاريخية..
قدرة الصور الصادمة على إحداث تغيير بات مشكوكا بها، لكن الأكيد أن إشاحة النظر عن تلك الصور لم يعد خيارا متاحا..
[email protected]