عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

توازنات وضوابط ومحاسبة

وافق الثلاثاء 20 يناير (كانون الثاني) الحالي الذكرى الـ750 لأول جلسة برلمانية في وستمنستر بمشاركة العامة، فظهر الاسم «دار العموم» (House of Commons) وعرفه العرب بـ«مجلس العموم».
20 يناير 1265 شهد حضور أول نواب للمقاطعات والمدن من أنحاء مملكة هنري الثالث (1207 - 1272). مُثلت كل مقاطعة (Shire) بفارسين (Knights)، وكل مدينة بمواطنين (أفندية أو Burgesses).
مجلس 1265 كان مولد ديمقراطية التمثيل من الدوائر الانتخابية المعمول بها حتى القرن العشرين عندما أعيد رسم حدود الدوائر لتعكس عدد السكان لا المساحة الجغرافية، فالكثافة السكانية في المدن الصناعية تفوق أضعاف أضعافها في المقاطعات الريفية.
أصل المشاركة في الدوائر هو الجذور الشعبية كأساس في الديمقراطيات البرلمانية، لأن الحزب أو التيار الذي يفوز مرشحوه بأكثر من نصف الدوائر الانتخابية (325+1) يشكل الحكومة.
«الماغنا كارتا»، كأول تعاقد في التاريخ الحديث بين الحاكم والمحكوم وضمان المساواة أمام القانون وحقوق المواطن، لم تذكر شيئا عن التمثيل النيابي وآلية محاسبة الحكومة كجهاز تنفيذي أو طريقة اختيارها في المقام الأول.
دعوة «العموم» أو «العامة» (أي من خارج البلاط الملكي أو رجال الكنيسة أو النبلاء كالطبقة التي تمردت على الملك جون ووقعت «الماغنا كارتا») للاجتماع في لندن كممثلين للمقاطعات والمدن، كانت خطوة عير مسبوقة وابتكارا ديمقراطيا، وشكلت سابقة للتطوير والإصلاح الديمقراطي المستمر الذي أصبح القاعدة المميزة للديمقراطية البريطانية التي لا يوجد دستور مكتوب لتنظيمها، بل على العكس فإن الدستور غير المكتوب لا يقيد التحرك بل يضمن مرونة التعديل والتطوير مثلما شكلت سابقة 1265.
البرلمان يعود إلى ثلاثة قرون قبلها، لعام 924، وحتى قبلها في العصور السكسونية كانت هناك الـ«Moots» أو المجالس الشعبية العرفية، ولها صلاحيات فض منازعات على مستوى المقاطعة وأيضا بحث ما يهم سكانها. ومن إرث المجالس أن نائب برلمان القرن الـ21 يخصص يوما أو اثنين أسبوعيا للقاء أبناء الدائرة ويبحث معهم ما يطلبون طرحه في وستمنستر.
ومن العصور السكسونية تجد «The Witan»، والترجمة الأقرب مجلس شورى الملك الذي يستمع فيه للآراء والمناقشات خاصة مشاريع القوانين لتمحيصها وبحثها قبل أن يصدرها العرش. حضور المجلس اقتصر على النبلاء والمتعلمين ورجال الكنيسة، في غياب العامة، ومع نمو المجتمعات ظهرت مجالس الـ«Moots» كمكمل لتمثيل أوسع نطاقا.
ومع الغزو النورماندي 1066 بقيادة ويليام الفاتح (1028 - 1087) تأسس الـ«Magnum Concilium» المجلس الأكبر أو جنين البرلمان الحديث. وكان يقتصر على أصحاب المقاطعات ورجال الكنيسة والبلاط. وبدأت دعوات للفرسان للحضور منذ 1254.
دعوة برلمان 1265 للانعقاد كانت خطوة ثورية كبداية علامة أول ميل في مشوار التمثيل النيابي.. لكنها كانت موجة أفرزتها تيارات ثورية وتمردات من الطموحات، والأفكار المثالية، والمعادلات البراغماتية التي كانت النموذج الكلاسيكي لمراكز القوى في العصور الوسطى (البلاط، الكنيسة، مجالس النبلاء والبارونات)، ومعظم الأحداث الثورية أو غير العادية، في الحكم المضطرب للملك هنري الثالث الذي تولى العرش في 1216.
القوة الحقيقية وراء العرش كانت في يد سيمون دي مونتفورت، دوق ليستر، وكان متمردا مع مجموعة من النبلاء واجهوا هنري الثالث في برلمان مصغر في مدينة أكسفورد عام 1258 وأجبروه على قبول هذا البرلمان للمشاركة في القرارات، لكن هنري تراجع عن وعوده بعد ثلاثة أعوام. دعوة برلمان 1265 توجت نجاح المتمردين بزعامة مونتفورت بهزيمة هنري في معركة لويس في صيف 1264 وأسره وأخيه (أصبح الملك إدوارد الأول بعد ثمانية أعوام)، وأصبح الحاكم الفعلي باسم هنري الثالث. وبعد ستة أشهر دعي البرلمان للانعقاد.
نقدم هذا التاريخ لقرائنا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث يتقاذفهم تياران؛ الأول متعجل في تطبيق ديمقراطية يختصرها في الانتخابات ويريد حاكما بعصا سحرية للإصلاح.. وعلى النقيض الآخر تيار يرفض التغيير لأنه يأتي بما لا تحمد عقباه (اليمن وليبيا وسوريا وكادت الكارثة تحل بمصر لولا انتفاضة الشعب).
ولذا نقدم نموذجا من وقائع التطور التاريخي لأقدم وأرسخ الديمقراطيات وأكثرها استقرارا بالتطور التدريجي، مقارنة مع بلدان بها دستور مكتوب وتنقصها الديمقراطية، أو بها مجالس منتخبة تعوق تطور الديمقراطية (مجلس اللوردات مثلا غير منتخب لكنه عامل أساسي في تطوير الديمقراطية البرلمانية).
هذا الأسبوع ظهرت في بريطانيا قوة سيكون لها الدور الأكبر في تحديد نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة بلا مشاركة ناخبي الدوائر أنفسهم. وهو ما يقسم الآراء عما إذا كانت القوة الجديدة بمثابة تقوية أم إضعاف للديمقراطية. إنها السلطة الرابعة.
تعريف السلطة الرابعة لم يعد محدد المعالم، فقد تطور وابتعد عما قصده إدموند بيرك أول مرة عام 1787 أثناء مناقشة برلمانية. كان بيرك (1729 - 1797) الفيلسوف والمفكر الآيرلندي المولد نائبا في مجلس العموم البريطاني عندما أشار إلى منصة الصحافيين. الصحافة المطبوعة، وبالتحديد المجموعة الصحافية البرلمانية، عين الشعب ومراقب يحاسب النواب والحكومة على الأداء ويكشف الأخطاء.
ولا تستطيع السلطة الرابعة التي كان بيرك يعنيها البقاء على قيد الحياة بلا شراء القراء للصحف. فالصحافة تخضع للمحاسبة لأن شراء القارئ للصحيفة هو تصويت فعلي على أن يمثله مراسلها في المنصة الصحافية في البرلمان.
وفلسفيا، تواجهنا مشكلة اعتبار التلفزيون بجمهور عالمي السلطة الرابعة التي يعنيها بيرك. فشبكات التلفزيون تريد تحديد معايير المناظرات التلفزيونية التي تريد بثها على الهواء وصياغة رأي عام ككتلة، لكنها سلطة غير منتخبة ولا تخضع لمحاسبة قراء تضمن قروشهم استمرار الصحيفة أو إفلاسها إذا امتنعوا عن الشراء. الـ«بي بي سي» ممولة من رسوم يدفعها كل بيت إجباريا والتلفزيون الخاص من إعلانات الاحتكارات التجارية والسلع الاستهلاكية وبرامج هزلية، أو من الاشتراكات. مديرو محطات التلفزيون، غير المنتخبين من الشعب والذين لا يمثلون أحدا، يريدون إجبار رئيس الوزراء المنتخب ديفيد كاميرون على خوض مناظرات تلفزيونية تصلح للأنظمة الجمهورية التي تنتخب شعوبها الرئيس مباشرة أو الحكومة بنظام التمثيل النسبي (القوائم). أما الديمقراطية البرلمانية فتعني الحوار في 650 دائرة برلمانية، حيث الناخب يهمه كيف سيتعامل ممثله (نائبه) مع قضايا تهمه كما كان الحال في أصل التمثيل في المجالس العرفية (Moots) في العهود السكسونية.
ودراسة تطور الحملة الانتخابية لمجلس العموم ستكون درسا يفيد بلدان ما بعد ثورات 2011 التي كاد التلفزيون وبرامجه الحوارية يحل فيها محل البرلمانات المنتخبة في تحديد المصير السياسي لمجتمعاتها.