راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

«ديدي أفندي».. والحسناء أكثر من اللازم!

«ليس عليكم سوى الاهتمام بشؤونكم الداخلية»، بهذه النبرة المتعالية رد رجب طيب إردوغان على بيانات الانتقاد الغربية، التي صدرت بعد قراره بسجن دفعة جديدة من الإعلاميين، الذين يعارضون سياساته ويؤيدون خصمه فتح الله غولن. كان في وسعه طبعا أن يتهم منتقديه بالوقاحة كما اتهم جو بايدن عندما ذهب إلى تركيا داعيا إلى التدخل لدعم صمود كوباني.
لا معنى عنده لبيان فيديريكا موغيريني الذي اعتبر أن الاعتقالات تتعارض مع جوهر الديمقراطية وتناقض القيم والمعايير الأوروبية، ولا قيمة لكلام جين بساكي عن أن واشنطن «بوصفها صديقا وحليفا لتركيا» تراقب بقلق الاعتقالات المنافية لمبادئ الحرية، لأن إردوغان ينظر إلى الديمقراطية ضمنا على أنها هرطقة تعوق المسيرة التي يشد رحالها لسحب تركيا من العصر والحداثة إلى الزمن العثماني، مستنسخا السلطان التركي والسلطنة ولو بذقن حليق وبقيافة ورباط عنق!
أورهان باموك، الكاتب التركي حائز جائزة نوبل، ندد بأجواء الخوف السائدة في تركيا، وبالضغوط المتزايدة التي يمارسها النظام الإسلامي، الذي ينحو إلى التشدد.. «الجميع خائفون، وهذا سيئ.. حرية التعبير تدنت حتى أصبحت في الحضيض»، لكن ردود إردوغان دائما جاهزة ودائما تتهم خصومه ومنتقديه بأنهم «عناصر تهدد أمننا القومي».
«هذا زعيم متشاوف ينظر إلى الأمور من شرفة طاووسية»، هكذا وصفه أحد الذين تظاهروا في ساحة «تقسيم» العام الماضي. اتهام إردوغان الإعلاميين بأنهم يهددون الأمن القومي فيه «رأفة» قياسا بتهديده المتظاهرين في ساحة «تقسيم»: «أيها الإرهابيون، نحن أحفاد السلاجقة الذين حكموا الشرق الأوسط تحت راية واحدة.. نحن أحفاد العثمانيين الذين رفعوا راياتهم فوق ثلاث قارات».
أسلمة تركيا واستعادة السلطنة لا تتطلبان سوق الإعلاميين والمعارضين إلى السجون؛ بل سوق تركيا إلى السجن وإعادة إغراق كمال أتاتورك في مياه البوسفور، وكل «الرأفة» إن لم يغرق إردوغان معارضيه في البحر بل في الخوف والصمت. إذن ليهتم الأوروبيون والأميركيون بشؤونهم الداخلية وليتركوا الباب العالي يهتم بشؤون تركيا!
هدايت كاراجا، رئيس تلفزيون «سامانيولو»، قال وهو يساق إلى السجن: «هذا عار على تركيا». وإردوغان اعتبر الإعلاميين «من شبكات الشر، وسنلاحقهم في أوكارهم»، لكن ليس خافيا لا على الأتراك ولا على المراقبين أن العملية تتصل بالتحقيق الواسع الذي بدأ في 17 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2013 حول فضيحة فساد مدوية في تركيا أدت إلى اعتقال كثيرين.
كان بين المعتقلين عشرات من السياسيين ورجال الأعمال، وبينهم أبناء 3 من الوزراء في حكومة إردوغان، الذي كان يومها رئيسا للحكومة، لكنه تجاوز كل القوانين فأوقف التحقيق وعزل آلافا من عناصر الشرطة وعددا من القضاة ودفع البرلمان إلى إقرار قوانين تعزز الرقابة على الجهاز القضائي وحتى على وسائل الإعلام والإنترنت.
في زمن السلطنة لم تكن هناك وسائل للاتصال الاجتماعي التي توسع مساحة المعرفة والاطلاع عند الناس وتضيق المراقبة على المسؤولين، لهذا انخرط إردوغان في حرب ضروس ضد حق المعرفة عند المواطنين الأتراك، وفي إطار لفلفة فضيحة الفساد، أمر بحجب موقع «تويتر»، ووصف موقعي «فيسبوك» و«يوتيوب» بأنهما يضران بالمصالح القومية لتركيا!
جاء ذلك ردا على نشر تغريدات وأخبار وتسجيلات منسوبة إليه وإلى مقربين منه تكشف علاقته بعمليات فساد مالية ضخمة، والمضحك - المبكي أن إردوغان اتهم هذه المواقع بأنها «تهدد الأمن القومي، ونحن لسنا جمهورية موز، ولا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لأي شخص يتحلى بمنطق سليم أن يدافع عن (تويتر) و(فيسبوك) و(يوتيوب)، وهي سببت تصدع العائلات؟!».
مشكلة إردوغان أنه لا يحارب معارضيه، بل يحارب العصر، ويسعى لسحب تركيا إلى الزمن العثماني الغابر. وفي اعتقادي أن خطة إردوغان ستفرض عليه عمليا الزج بكل تركيا في السجن، ببيئتها الاجتماعية ونمط عيشها ووتيرة اندماجها في علاقاتها، ومشكلته أنه يطل على الأمور من شرفة عثمانية سحيقة لم يعد العصر يتسع لها ولا في وسع المواطنين الأتراك تقبلها.
دعونا مثلا من حكاية الاكتشاف العجيب الذي توصل إليه، عندما أعلن أنه واثق من أن «المسلمين هم من اكتشف القارة الأميركية في القرن الثاني عشر، وليس كريستوفر كولومبوس، الذي وصل إليها بعد ذلك بمائتي عام»، وتعالوا لنتخيل رأي شباب تركيا اليوم في دعوة إردوغان لهم كي يعودوا إلى الماضي، وأن يتعلموا عن الموسيقيين الأتراك بمقدار ما يتعلمون عن الموسيقيين الأجانب.
يقول إردوغان إنه «يجب أن يستمع طلابنا إلى عطري وديدي أفندي، تماما كما يستمعون إلى بيتهوفن»، طبعا لأن من عليه أن يعود مواطنا من رعايا السلطان والسلطنة، فعليه أن يستسيغ الموسيقى الكلاسيكية العثمانية التي ألفها ديدي أفندي!
ولا يتردد إردوغان في توجيه الانتقاد إلى الجيل التركي المعاصر، لأنه مثلا يعرف عن آينشتاين أكثر مما يعرف عن ابن سينا، لكن التدقيق في المسار الذي جعل من ابن سينا الفيلسوف والطبيب والعالم الذي عاش في القرن الثاني عشر، أحد ألمع مفكري العصر الذهبي للإسلام، يكشف أن إردوغان يسعى إلى دفع تركيا في مسار معاكس لابن سينا!
في خطته لدفن أتاتورك والعلمانية وأسلمة الدولة، يسعى إردوغان نحو إدخال اللغة العثمانية في مناهج التعليم الرسمية، لكن المعارضين ردوا بالتهكم قائلين إنها لغة بائدة تقتصر على قراءة النصوص المكتوبة على شواهد القبور، فرد عليهم بالقول إن «شواهد القبور تحمل تاريخا وحضارة، وعدم معرفة الجيل بمن يرقد في مقابره جهل أكبر».
كتبت صحيفة «ديلي ميل» في 9 ديسمبر الحالي أن الخطوط الجوية التركية فصلت المضيفة زوهال سينغال (31 عاما) لأنها «حسناء أكثر من اللازم»، فهي مثيرة وهو ما يتنافى مع سياسة الشركة. يأتي هذا بعدما حظرت الشركة على المضيفات وضع أحمر الشفاه وطلاء الأظافر.
ليس في الأمر أي غرابة إذا عرفنا أن إردوغان وصل في سعيه للزج بتركيا في قوالب دينية متشددة، عندما أعلن أن الإسلام حدد دور النساء في المجتمع بالأمومة، وأن المساواة بين الرجل والمرأة ضد الطبيعة البشرية.. «طباعهن وعاداتهن وأجسادهن مختلفة، لا يمكن وضع امرأة ترضع طفلها ورجل على قدم المساواة».
أحد الأتراك كتب معلقا: «هل المرأة التركية وحدها مسكينة، لا.. تركيا مسكينة أيضا.. وإردوغان مسكين الأوهام الأكبر»!