يعد فن النحت، وفي القلب منه النحت الخزفي، أحد أصعب أنواع الفنون التشكيلية على الإطلاق، فالفنان هنا يخوض سباقاً مع موروث إنساني يمتد آلاف السنين، ويواجه تحدياً خاصاً يتمثل في أن يضع بصمته الخاصة وسط مئات التماثيل القديمة والحديثة التي باتت تشكّل جزءاً من الوجدان الإنساني في مختلف البلدان والحضارات.
يضم معرض «أنا مصرية» المقام بقاعة «الباب» بدار الأوبرا المصرية حتى الحادي والعشرين من الشهر الحالي للفنانة منى غريب، الأستاذ المساعد بكلية «فنون جميلة»، بجامعة الإسكندرية 43 قطعة من النحت الخزفي تتنوع في أحجامها وارتفاعاتها؛ لكنها تنطوي على طاقة جمالية خاصة، وقدرة على جذب المتلقي إلى حالة من التفاعل التي قد تبدأ بالفضول، ثم تنتهي إلى حالة من الغوص العميق مع الحالة التي يشكلها المعرض.
وتعد تجليات «الجمال الأنثوي» بمنزلة «الثيمة» أو الاتجاه الغالب على الأعمال المعروضة عبر رموز وأشكال لا تتوقف عند حدود الحضارة المصرية القديمة، بل تمتد إلى حضارات وثقافات أخرى. هناك على سبيل المثال توظيف مدهش لأسطورة «الميدوزا» في الحضارة الإغريقية والتي تتحدث عن فتاة ساحرة الجمال أصيبت بلعنة من جانب إله البحر بوسايدون فكانت النتيجة أن تحول شعرها إلى حفنة من الثعابين وتحوُّل أي إنسان تقع عينه عليها إلى كومة من الحجارة.
تتحول تلك الشخصية الأسطورية المخيفة عبر أكثر من قطعة نحتية في المعرض إلى امرأة جميلة تدعوك إلى الإعجاب بها والتعاطف معها، وكأن الفنانة تمسح عنها ما لحق بها من سمعة شريرة، وتستعيد إنسانيتها عبر تحويل الثعابين إلى ما يشبه أدوات زينة حمراء اللون. وعرفت مصر فن النحت الخزفي منذ فجر التاريخ وقبل عصر الأسرات وشيوع الكتابة من خلال صنع تشكيلات مبدعة في خامة الطين أو الصلصال، ثم حرقه ومزجه بالزجاج في مراحل تاريخية لاحقة مع غلبة اللونين الأزرق والأخضر عليه. وغالباً ما كانت الأواني الفخارية في صورتها الأولى تعكس حليات هندسية أو مناظر للصيد والقتال، فضلاً على رسومات لنباتات وحيوانات.
ولا تكتفي منى غريب باستلهام جمال ملكات الفراعنة في تماثيل عصرية أكثر بساطة، وإنما تتوسع في العزف على «ثيمة» الفن الشعبي ورموز الفلكلور مثل العرائس سواء كانت «عروس حلوى المولد» أو «عروس منع الحسد» أو «العروس اللعبة» التي ترافق مرحلة البراءة والطفولة في حياة كل فتاة. ومن الثقافة الشعبية بظلالها الريفية إلى المرأة المعاصرة في تجلياتها المختلفة العابرة للعديد من المجتمعات والثقافات، فتارة تحتفظ حواء ببهائها وقدرتها على التحدي، وتارة أخرى نراها هشة قابلة للكسر وحزينة تفتقد الإحساس بالأمان في مواجهة عالم يصيبها بالخوف.
وقالت منى غريب، الأستاذ المساعد في كلية «الفنون الجميلة» بجامعة الإسكندرية لـ«الشرق الأوسط» إن «أهمية هذا المعرض بالنسبة لها تأتي في سياق مشروعها لرصد تجليات وطقوس حواء من خلال الهوية المصرية ورموز الحضارة الفرعونية مع الانفتاح على إشارات ومعانٍ إنسانية أيضاً»، مشيرة إلى أن «المعرض يعد حصيلة 5 سنوات من العمل والجهد لعب فيها الطين الأسواني دور البطولة بوصفه الخامة الأساسية التي اعتمدت عليها».
وتختم منى حديثها قائلة: «أنظر إلى فن النحت والفن عموماً بوصفه وثيقة تاريخية يقدمها الفنان للأجيال التالية كأنها شهادة على عصره، رغم أنه يكون وقت الإبداع واقعاً تحت ملابسات انفعاله الشخصي، لكنه في النهاية يقوم بدور المؤرخ وإن كان بقيم وجماليات الإبداع».