تحتاج أساليب المعالجات الطبية إلى مراجعات مستمرة للتأكد من الجدوى وضمان عدم التسبب بالضرر، ويحتاج التفكير الطبي في وضع واعتماد أساليب المعالجة الطبية، إلى إعادة تقييم لكيفية بناء فلسفة وأسلوب واستراتيجية تلك المعالجات الطبية.
والأساس في التفكير الطبي بالعموم عند تبني المعالجات الطبية، هو اعتماد عدد من المقدمات المنطقية البسيطة، التي منها «منع أو خفض السبب، بهدف الوقاية من الإصابة، بالنتيجة»، بمعنى أن تلوث الجروح سبب في إصابتها بالالتهابات الميكروبية وتأخير شفائها، وعليه فإن تنظيف الجرح والحفاظ على نظافته هو السبيل للوقاية من تلك النتيجة السلبية وبالتالي يكون التئام الجرح أسرع.
والإشكالية هي في تعميم هذا المبدأ في معالجة حالات أخرى لها معدلات طبيعية ومعدلات غير طبيعية، كما هو الحال في ارتفاع ضغط الدم واضطرابات الكولسترول وهشاشة العظم وقائمة طويلة من الأمراض التي يعتمد أسلوب معالجتها على المبدأ المنطقي المتقدم الذكر. وسبب الإشكالية هو ظهور احتمالات لتسبب أساليب المعالجة بذلك الأسلوب، في آثار سلبية أخرى لاحقًا. وعلى سبيل المثال هناك الكثير من المراجعات الطبية التي تُعدّل إرشادات المعالجة في حال ارتفاع ضغط الدم، أي إلى أي حدّ يجدر بالمعالجة تحقيق خفض ارتفاع ضغط الدم؟ هل هو إلى المدى الطبيعي أم يُمكن تقبل شيء من الارتفاع لدى كبار السن مثلاً، وهو ما تضمنته أجزاء من المراجعات الثامنة للجنة الوطنية المشتركة Eighth Joint National Committee (JNC 8) والمعنية بوضع إرشادات معالجة ارتفاع ضغط الدم بالولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال أيضًا إلى أي مستوى يكون خفض ارتفاع الكولسترول الخفيف الضار، وهل خفض ارتفاع السكر لدى مرضى السكري يمنع بالفعل نشوء أمراض شبكية العين لديهم لاحقًا؟.
وضمن عدد 17 أغسطس (آب) الحالي من مجلة «علوم الأعصاب» Neurology، نشر الباحثون من جامعة غوثنبيرغ بالسويد نتائج دراستهم حول تأثيرات تناول النساء لأدوية «مُكملات الكالسيوم» Calcium Supplements على أمل الوقاية أو معالجة هشاشة العظم Osteoporosis. ومعلوم أن هشاشة العظم أحد الأمراض التي تتسبب بكثير من المشكلات الصحية للمُصابين به، وخاصة كبار السن. والعمل على حفظ بناء قوي للعظم هو الوسيلة لمنع حصول التداعيات الناجمة عن هشاشة العظم. ومعلوم أيضًا أن بناء عظم قوي يحتاج بداية إلى توفر عنصر الكالسيوم وفيتامين «دي» لضمان حصول ذلك، ومعلوم كذلك أن ثمة إرشادات غذائية طبية تتضمن ضرورة تناول كمية معينة من الكالسيوم بشكل يومي، وتحديدًا ضرورة تناول كمية ما بين 1000 إلى 1200 ميليغرام من الكالسيوم يوميًا لمنع إصابة كبار السن بهشاشة العظم، ولأن البعض قد يُواجه صعوبات في تأمين تلك الكمية من الغذاء الذي يتناوله فإنه تتوفر أقراص دوائية تحتوي على معدن الكالسيوم، وتُسمى مُكملات الكالسيوم، ونتيجة لتطبيق «مبدأ التعويض» يتم وصف تناولها.
ولكن الباحثين لاحظوا في نتائج دراستهم أن تناول النساء الكبيرات في السن لأدوية مُكملات الكالسيوم مرتبط بارتفاع احتمالات الإصابة بالخرف Dementia، أو العته. وأن ارتفاع الاحتمالات تلك يكون أعلى لدى النساء اللواتي سبقت إصابتهن بأمراض ناجمة عن نقص تدفق الدم إلى الدماغ Cerebrovascular Disease، مثل السكتة الدماغية Stroke. وتحديدًا، لاحظ الباحثون في نتائجهم أن خطر الإصابة بالخرف هو سبعة أضعاف لدى النسوة اللواتي سبقت إصابتهن بالسكتة الدماغية ويتناولن أدوية مُكملات الكالسيوم، وذلك بالمقارنة مع النسوة اللواتي سبقت إصابتهن بالسكتة الدماغية ولا يتناولن أدوية مُكملات الكالسيوم.
كما لاحظ الباحثون في نتائجهم أن خطر الإصابة بالخرف هو ثلاثة أضعاف لدى النسوة اللواتي لديهن «آفات في مادة الدماغ البيضاء» White Matter Brain Lesions ويتناولن أدوية مُكملات الكالسيوم، وذلك بالمقارنة مع النسوة اللواتي لديهن «آفات في مادة الدماغ البيضاء» ولا يتناولن أدوية مُكملات الكالسيوم. ومعلوم أن الآفات في مادة الدماغ البيضاء هي نتيجة حصول إصابات بسكتات دماغية متعددة صغيرة الحجم Mini - Stroke أو إعاقات لتدفق الدم إلى مناطق الدماغ. وعلقت الدكتورة سيلكي كيرن، الباحث الرئيس في الدراسة والباحثة في علوم الأعصاب النفسية بجامعة غوثنبيرغ، على النتائج بالقول: «على النسوة اللواتي لديهن هشاشة عظم وسبقت إصابتهن بأمراض ناجمة عن نقص تدفق الدم إلى الدماغ، ضرورة مناقشة هذه المعلومات الجديدة مع طبيبهن». وملاحظة الباحثين الطبيين حصول تأثيرات عكسية لتناول أدوية مُكملات الكالسيوم بدأت تكثر مؤخرًا، ووفق ما ذكره الدكتور ريكاه مانكاد بمايو كلينك في الولايات المتحدة أن دراسة المؤسسة القومية للصحة National Institutes of Health بالولايات المتحدة في عام 2013 حول تأثيرات تناول أدوية مُكملات الكالسيوم لاحظت أن ثمة ارتباطا بين ذلك وبين ارتفاع الإصابات بجلطات النوبات القلبية والسكتات الدماغية لدى الرجال، ودراسات أخرى لاحظت نفس الشيء لدى الرجال والنساء.
وأضاف أن ثمة ضرورة لإجراء مزيد من الدراسات حول هذه التأثيرات المحتملة لأدوية مُكملات الكالسيوم، لأن هناك احتمالات أن الكالسيوم في هذه الأدوية، وليس كالسيوم الغذاء الطبيعي، يتسبب في تفاقم ترسبات الكولسترول التي تُضيق الشرايين في حالات التصلب العصيدي للشرايين Atherosclerosis، ما يجعل تلك الترسبات الدهنية تتحول إلى كتل أشد صلابة في تضيقها لمجاري الشرايين القلبية أو الدماغية. وتُضيف الدكتورة نيليم أغاروال، طبيبة علوم الأعصاب بمركز القلب في جامعة رش بشيكاغو قائلة أن زيادة الكالسيوم قد تتسبب بسلسة متتالية من التفاعلات السلبية على خلايا الدماغ.
والواقع أنه ثبت تدني جدوى، وربما ضرر، اللجوء التلقائي إلى الأدوية المحتوية على المُكملات للمعادن والفيتامينات، في عدد من الحالات الصحية بالمقارنة مع تناول تلك المعادن والفيتامينات من مصادرها الغذائية الطبيعية. ويجدر أن تشمل الجهود البحث عن طرق أفضل لتحسين نوعية التغذية لتزويد الجسم باحتياجاته، ولا يكون اللجوء إلى أدوية المُكملات للمعادن والفيتامينات إلاّ عند الضرورة لتعويض النقص في الجسم، وألا يُعتمد عليها كبديل للغذاء في حصول الجسم على المعادن والفيتامينات على المدى الطويل.
* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]
8:37 دقيقه
TT
فلسفة أسلوب المعالجة.. مكملات الكالسيوم مثالاً
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة